الخميس، 16 مايو 2013

الدولة المرايطية بقلم الاستاذ كروم عيسى

شهد النصف الثاني من القرن الخامس هجري ، ميلاد الدولة المرابطية، في بلاد المغرب أو دولة الملثمين كما يحلو للبعض تسميتها ، والتي اعتبرت من بين أعظم الدول التي ظهرت في المنطقة رغم قصر عمرها(449 ه – 541ه) / (1057 م- 1146م) وتنتمي الدولة المرابطية إلى قبيلة لمتونة، وهي إحدى أهم فروع صنهاجة، نشأت على يد إحدى الحركات الدينية التي لم تكن لها مطامع سياسية في بداية الأمر؛ فالحركة كانت عبارة عن تجمع داخل رباط ، و تكُوين هذا الرباط يعود إلى عبد الله بن ياسين الجزولي، الذي انتدبه أحد مشايخ المذهب المالكي ليُعلم قوم يحي ين إبراهيم ألجدالي زعيم قبيلة جدالة، بطلب من هذا الأخير. من أجل أن ُيعلم الناس اتخذ عبد الله بن ياسين موضعا؛ فقصده الناس، وازدادوا عن الألف طالب في بضع أشهر، وبزيادة عدد الطلاب ، ولما رآه من بُعد عن العقيدة الإسلامية والانحرافات في المغرب انتقل عبد الله بن ياسين إلى دعوة القبائل المجاورة بالحسنى، إذ كان يبعث بعثات الطلاب إليها تدعو إلى إتباع دين الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلم يجد ذلك نفعا فانتقل إلى قتالهم . بدأ بقبيلة جدالة وخاض معهم معارك شرسة ، ثم سار بالمجاهدين إلى قبيلة لمتونه، فانتصر عليهم، ودخل الجميع تحت طاعته، ثم سارت حذوها بقية القبائل الصنهاجية ، وازداد قوة فاشترى السلاح والخيول، وراح يغزو القبائل حتى ملك جميـع بلاد الصحراء، يقول صاحب الاستقصا"...فاشتهر أمره في جميع بلاد الصحراء وما وَلَاهَا من بلاد السودان وبلاد القبلة وبلاد المصامدة وسائر أقطار المغرب...". ولما توفي يحي بن إبراهيم الجدالي، اختار عبد الله بن ياسين مكانه الأمير يحي ابن عمر اللمتوني يقوم بأمر المرابطين في حربهم وجهادهم وقد اختاره من لمتونة، من بين قبائل صنهاجة لما رأى فيها من بأس وطاعة وصلاحا، وكان يحي بن عمر شديد الانقياد لعبد الله بن ياسين. وفي سنة 447ه (1055م) كتب وجهاء و فقهاء سجلماسة إلى عبد الله بن ياسين رغبتهم في المجيء إليهم؛ ليخلصهم من الجور والتعسف والمنكرات، لأن أخبار المرابطين انتشرت على أنها حركة إصلاحية . خرجت جموع المرابطين في شهر صفر إلى درعة وسلجماسة ،فتصدى لهم أمير مغراوة، وانتهت المعركة بقتله، وتنصيب عمال تابعين للمرابطين لكن بعد عودة المرابـطين إلى الصحراء، اندلعت ثورة لاستعادة المدينة من القوة المرابطية فعاد الأمير يحي بن عمر إلى سجلماسة فقتل في المعركة. خلف الأمير أبو يكر بن عمر أخاه يحي بن عمر عام448 ه(1056م)وكان له دور كبير في تدعيم ركائز الدولة المرابطية، فقد ازداد حجم قوة المرابطـين فتأهب أبو بكر لغزو السوس، وفي هذه الحملة اختار أبو بكر بن عمر ابن عمه يوسف بن تاشفين ليتولى قيادة الجيش، وقد كان في السابق لا يَرْقَ إلى قائد جناح، فأظهر كفاءة في القيادة والقتال، فسقطت بلاد جزولة ،وماسة ،وتارودانت عاصمة السوس. رحل عبد الله بن ياسين إلى بلاد المصامدة ففتح بها مناطق واسعة ووفدت إليه عدة قبائل للمبايعة، ثم توجه إلى أغمات التي كان يحكمها لقوط فحاصرها ما جعل لقوط يهجرها ليلا نحو بني يفرن،فدخلها المرابطون سنة 449 ه(1057م)، وبقي فيها شهرين ثم توجه إلى تادلا،حيث قبائل بني يفرن؛ فقضى على لقوط وكانت له امرأة تدعى زينب النفزاوية، قال عنها ابن خلدون :"…وكانت من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة…" تزوجها أبو بكر بن عمر . اتجه أبو بكر بن عمر صوب تامسنا حيث كان ينزل بها البرغواطين فنشبت بين الطرفين معارك شديدة أصيب خلالها عبد الله بن ياسين بجروح بالغة أدت إلى وفاته، فجمع أبو بكر الزعامة الدينية والسياسية، بعد أن اتفق المرابطون على ذلك. واصل أبو بكر جهاده ضد البرغواطين حتى إستأصلهم وفرق جموعهم وعاد إلى أغمات التي اتخذها قاعدته العسكرية، ثم فتح أراضي زناته ، ومكناسة ثم لواتة. ولما توسعت الدولة اختار لها موضع لبناء حاضرة جديدة وهي مراكش. وفي هذه الفترة ظهرت بعض الحوادث كادت أن تعصف بدولة المرابطين وهي اختلاف جدالة ولمتونة في الجنوب،وكذا تحرك السودانيين ضدهم، رأى أبو بكر بن عمر أن حل هذه المشكلة هو أن يقسم جيش المرابطين إلى قسمين، فخص نفسه بقسم توجه به نحو الصحراء؛ للقضاء على الفتنة، وقسم خص به ابن عمه يوسف بن تاشفين في الشمال . وقبل أن يتوجه أبو بكر بن عمر إلى الصحراء،طلق زوجته زينب النفزاوية، ليتزوجها ابن عمها حيث قال لها :"واني مطلقك فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغربً. خلف يوسف بن تاشفين أبو بكر بن عمر، فواصل الفتح، ودخلت سائـر القبائل في طاعته، وقضى على جميع الفتن التي كانت تنشب بين الحين والآخر، وفي يضع أشهر تمكن يوسف من إخضاع سائر المغرب الأوسط؛ حتى وصل إلى يجاية التي كانت تحت حكم الحماديين. لم يكن يوسف بن تاشفين قائدا عسكريا فحسب بل سياسيا بارعا؛ فقد كان يولي عماله على المدن من المقربين منه، وأصحاب الشخصيات القوية؛ كي لا يثوروا ضده، فقد ولى سير بن أبي بكرعلى مكناسة، وعمر بن سليمان على فاس واحوازها، وداود بن عائشة على سجلماسة، وابنه تميم على أغمات ومراكش وبلاد السوس، وهؤلاء كلهم من أقاربه. وقسم البلاد إلى مناطق إدارية ، وكون أسطولا بحريا. أما أبو بكر بن عمر عاد من الصحراء في سنة 465ه (1072م) ، بعد أن أصلح شأن الجنوب فوجـد ابن عمه يستقبـله أحسن استقبال، ولما رأى ما رأى من العظمة والجاه وقوة الجيش لدى يوسف أدرك أنه لن يتنازل له عن الملك، فقال له:" إني وليتك هذا الأمر وإني مسؤول عنه فإتق الله تعالى في المسلمين واعتقني واعتق نفسك من النار...". وما إن حلت سنة 467 ه (1083م) حتى كان يوسف قد أحكم قبضته على المغرب الأقصى.

الأربعاء، 15 مايو 2013

الدولة الرستمية بقـلـم : الشيخ مهنا بن راشد بن حمد السعدي


بسم الله الرحمن الرحيم لقد سمعنا عن الكثير من الدول الإسلامية التي نشأت وسقطت على مر التاريخ الإسلامي ، كالدولة الأموية العباسية والعثمانية بالمشرق ، والدولة المدارية والإدريسية والفاطمية بالمغرب ، وغيرها من الدول الإسلامية الأخرى التي فصل التاريخ في ذكرها . وهذه الدول لها إيجابياتها ولها سلبياتها ، وقد قدمت للأمة الإسلامية محاسن ، إلا أنها كذلك لم تخل من المساوئ التي نجدها عند قراءة تاريخها ، وهذه طبيعة البشر القصور عن الكمال . إلا أن هناك دولا إسلامية قامت ونشأت واستمرت ردحا من الزمن إلى أن سقطت ، وقدمت للأمة الإسلامية الشيء الكثير ، وقد يكون ما قدمته يفوق ما قدمته الدول المشهورة والمعروفة عند الخاصة والعامة . ومن هذه الدول من سار على نهج الخلافة الراشدة ، وتطبيق مبدأ الشورى ، سواء في انتخاب الحاكم أو في حكم الرعية ، إلا انه وللأسف الشديد لا نعرف عن هذه الدول الشيء الكثير ، وإذا وصلنا شيء فهو نزر قليل لا يفي للتعرف على جميع جوانب تلك الدولة والظروف التي عايشتها والخدمات الجليلة التي قدمتها للأمة الإسلامية ، وكذلك لا يخلو من التشويه والتحريف . والتعتيم على هذه الدول من قبل كتاب التاريخ يعود إلى عدة أسباب كالتعصبات المذهبية ، والمصالح السياسية ، والاغراءات المادية وما شابه ذلك من الأسباب التي ليس هذا محل ذكرها . ومن هذه الدول التي يجهلها الكثير ، دولة إسلامية عريقة نشأت في المغرب في سنة 160هـ ، واستمرت إلى سنة 296هـ ، أي أنها استمرت لمدة 136 سنة (1) . وقد خدمت هذه الدولة الأمة في الكثير من الجوانب سواء في جانب التأليف ونشر العلم أو في الجانب الاقتصادي والاجتماعي أو في الجانب المعماري ، وحتى في الجانب السياسي . فما اسم هذه الدولة ؟ ومن أنشأها ؟ وكيف نشأت ؟ وما الذي قدمته للأمة الإسلامية ؟ هذا ما سنحاول أن نتعرف عليه من خلال هذا المقال . إن هذه الدولة هي الدولة " الرستمية " التي نشأت في المغرب الأوسط ـ الجزائر حاليا ـ على يد الإمام عبد الرحمن بن رستم (2) . فمن هو الأمام عبد الرحمن بن رستم ؟ هو عبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن كسرى ، ولد في العراق في العقد الأول من القرن الثاني الهجري على أكبر تقدير ، ويرجع في نسبه إلى الأكاسرة ملوك الفرس ، فهم أجداده ، إلا أن بعض المؤرخين يعيدون نسبه إلى اللذارقة ملوك الأندلس قبل الإسلام ، والمهم في هذا أنه سليل بيت الملوك قبل الإسلام ، سواء كانوا من الفرس أم من اللذارقة (3) . سافر أبوه به وأمه من العراق إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ، إلا أن الأب وافاه أجله ، وترك يتيما وأرمله ، فتزوجت أمه برجل من أهل المغرب ، فأخذه وابنها عبد الرحمن إلى القيروان (4) . نشأ عبد الرحمن في القيروان ، وصادف هناك نشر الدعوة الإباضية في تلك الربوع فتعلق بها ، ونصحه أحد الدعاة بالسفر إلى المشرق لتلقي المزيد من العلم على يد الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة إمام الإباضية في ذلك الوقت (5) . توجه إلى البصرة ، وظل مع الإمام أبي عبيدة لمدة خمس سنوات يدرس في سرداب أبي عبيدة ، الذي أعده أبو عبيده تحت الأرض خوفا من عيون الأمويين (6) . عاد عبد الرحمن مع أصحابه حملة العلم إلى المغرب ، وكان من ضمنهم أول إمام للإباضية بويع في المغرب ، وهو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري اليمني ، وقد ذكرت بعض المصادر ظهور أئمة للإباضية قبل الإمام أبي الخطاب ، كالإمام عبد الحارث الحضرمي ، والإمام أبي الزاجر إسماعيل بن زياد النفوسي (7) . إلا أن بعض الباحثين يعتبر أن الإمام أبا الخطاب هو أول إمام للإباضية في المغرب ، وذلك أنه استطاع أن يقيم دولة للإباضية في المغرب (8) . بعد أن وصل حملة العلم إلى المغرب ، هيئوا الأجواء لإقامة دولتهم ، فلما سنحت لهم الفرصة في سنة 140هـ بايعوا أبا الخطاب المعافري بالإمامة ، بأمر من شيخهم أبي عبيدة (9) . بعد أربع سنوات من قيام دولة أبي الخطاب في الغرب ، وجه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي جيشا بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي ، فاستطاع هذا الأخير القضاء على دولة الإمام أبي الخطاب في معركة عنيفة سنة 144هـ ، أستشهد فيها الإمام أبو الخطاب (10) . حاول عبد الرحمن نجدة الإمام أبي الخطاب ، لكنه لم يتمكن من ذلك ، فاضطر للفرار من ملاحقة ابن الشعث له ، فتوجه إلى المغرب الأوسط ، حتى وصل إلى جبل يدعى " سوفجج " فتحصن به ، حتى أيس منه ابن الأشعث (11) . لما أحس عبد الرحمن من نفسه القوة والقدرة على بناء دولته الجديدة ، خاصة بعد أن التف عليه الكثير من أنصاره من البربر ومن أهل العلم والصلاح ممن يثق بهم ، اتجه إلى مكان تكثر في الأشجار والأحراش والسباع يسمى " تيهرت " ، فشرع في بناء دولته الإسلامية الجديدة هناك ما بين 155هـ - 160هـ ، والتي عرفت باسم " الدولة الرستمية " نسبة إلى والد عبد الرحمن ، كما جرت العادة في تسمية الدول الإسلامية في العصور الوسطى بأسماء آباء المؤسسين (12) . بذل عبد الرحمن ـ وهو لم يبايع بالإمامة ـ جهده مع من معه من العلماء في بناء تيهرت حتى تكون على أجمل هيئة ، حتى أن بعض المصادر العلمية تفصل في بناء المدينة بداية بالمسجد الجامع ، ونهاية بالدور والقصور ، والبيوت والأسوار الحصينة (13) . فازدهرت تيهرت وبلغت شهرتها الآفاق ، وشدت إليها الرحال للتجارة والسكن والعيش الرغيد الآمن ، مما جعل الكتاب والرحالة يقصدونها ويشيدون بها ومن ذلك ما قاله المقدسي واصفا لها فيقول : " ... هي بلخ المغرب ، قد أحدقت بها النهار ، والتفت بها الأشجار ، وغابت في البساتين ، ونبعت حولها العين ، وجل بها الإقليم ، وانتعش فيه الغريب ، واستطابها اللبيب ، يفضلونها على دمشق وأخطأوا ، وعلى قرطبة وما أظنهم أصابوا ، هو بلد كبير ، كثير الخير رحب ، رقيق طيب ، رشيق الأسواق ، غزير الماء ، جيد الأهل ، قديم الوضع ، محكم الرصف ، عجيب الوصف ... " إهـ (14) وما أن وصلت سنة 160هـ حتى قام العلماء وأهل تيهرت بمبايعة عبد الرحمن إماما عليهم ، وهو حري بهذا المنصب ، فهو الذي استطاع أن يبني لهم هذه الدولة ، وهو الذي خصه شيخه أبو عبيدة بقوله له : " أفت بما سمعت مني وما لم تسمع " (15) . وقد تولى الحكم في الدولة الرستمية عدد من الأئمة العدول ، يتم اختيارهم من قبل العلماء والرعية ، فكانت الدولة الرستمية سائرة على نهج الخلافة الراشدة ، وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن الحكم في الدولة الرستمية وراثي بسبب كون جميع من حكم من سلالة الإمام عبد الرحمن ، ولكن الأمر بخلاف ذلك ، وقد تكفل بعض الباحثين بكشف اللبس في هذه القضية كالشيخ علي يحيى معمر في كتابه " الإباضية في موكب التاريخ " 3/30 ، وذكر عدة أدلة تدل على أن نظام الحكم في الدولة الرستمية ليس وراثيا ، وإنما كان يرتسم خطى الخلافة الراشدة بتطبيق مبدأ الشورى ، وتكفل أهل الحل والعقد من العلماء باختيار الإمام الجديد . وأما عن سبب اختيار أهل الحل والعقد الإمام من أبناء الأمام عبد الرحمن فذلك يعود إلى توفر الصفات والشروط المطلوبة في الإمام من صلاح وتقوى وعلم وحنكة سياسية وغيرها من الصفات ، وقد رد د/ محمد صالح ناصر على من اتهم الدولة الرستمية وأتباعها أنهم طبقوا نظام الوراثة والملك العضود فقال " ... وهذه مغالطة ، لأن كتب التاريخ تشهد أن الرستميين كانوا يطبقون الشورى والانتخاب عند توليت كل إمام ، وما ذنب الرستميين إن كانت الكفاءة والنزاهة والتقوى ترشحهم كل مرة للفوز برضى الأمة التي ارتضتهم " إهـ (16) . وقد اشتهرت هذه الدولة بنظام الشورى المطبق فيها ، وبعدالة أئمتها ، وصلاحهم وتقواهم وعلمهم ، وبازدهارها ، وقد كان يعيش تحت ظلها أتباع كل المذاهب الإسلامية ، وكانوا يمارسون عبادتهم بكل حرية وأمان ، وكانت لهم مساجدهم وبيوتهم الخاصة التي يعيشون فيها مصانين الحقوق بعدل وإنصاف من غير تفريق بين مذهب ومذهب ، قال ابن الصغير مؤرخ الدولة الرستمية : " … ليس أحد ينزل بهم من الغرباء إلا استوطن معهم وابتنى بين أظهرهم ، لما يرى من رخاء البلد وحسن سيرة إمامه وعدله في رعيته ، وأمانه على نفسه وماله ، حتى لا ترى دارا إلا قيل هذه لفلان الكوفي ، وهذه لفلان البصري ، وهذه لفلان القروي ، وهذا مسجد القرويين ، ورحبتهم ، وهذا مسجد البصريين ، وهذا مسجد الكوفيين ... " إهـ (17) .

دور المغرب في نشر الإسلام ولغة القرآن بالغرب الإفريقي

دور المغرب في نشر الإسلام ولغة القرآن بالغرب الإفريقي أ. د. عبد العلي الودغيري حين يريد شخصٌ ما أن يتحدث عن انتشار الإسلام وحضارته وثقافته في المنطقة التي تُعرف اليوم بغرب أفريقيا أو منطقة جنوب الصحراء، وتُعرف قديماً بالسُّودان الغربي، سوف لن يجد أكثرَ من ثلاثة عناصر بشرية هي التي كانت وراء هذا الانتشار الواسع، وهي: العنصُر المشرقي، والعنصُر المغربي، والعنصُر الإفريقي المحلّي. فأما العنصر المشرقي فكان له الفضلُ في إيصال الرسالة المحمدية وحَملها من مَبعثها في المشرق ووضعها في يد الذين استَلَمُوها من بعده من أهل المغرب في الشمال الإفريقي. فقد كان دورُه التبليغَ وقد بَلَّغَ. ثم بعد ذلك حين رَسَخَت أقدامُ هذا الدين في الرُّبوع الإفريقية ، لم تنقطع الصلةُ بالمشرق، بل ظلَّت قائمةً على الدوام بفضل ركن الحَجِّ الذي فرضَه اللهُ على المسلمين كافةً لكي يحافظوا على هذه الصلة الدائمة بينهم ولو مرةً كلَّ عام ، وبفضل الرِّحلات المتبادَلَة ثقافياً وتجارياً، والكُتُب العلمية والدينية التي انتشرت في أفريقيا، وأخيراً بفضل بعض العلماء المشارقة الذين كان لهم إشعاعٌ على المنطقة واتصال مستمرٌّ برجالاتها، ومن أشهرهم وأشدهم تأثيرا الإمام جلال الدين السيوطي[1]. وقد أقامَ عددٌ منهم ـ على قلَّتهم ـ في أرض السودان ولو لفترة قصيرة، واقتصر آخرون على ما كتَبوه وألَّفوه ، فقرأه الأفارقةُ وتمثَّلوه وتأثَّروا بما فيه. والمقامُ لا يسمح هنا بالتفصيل في الأثَر المشرقي في نشر الثقافة الإسلامية والعربية بالمنطقة. أما العنصُر الإفريقي المحلّي، فهو المتمثِّلُ في أولئك الأفارقة أنفسهم الذين أسلَموا وحسُن إسلامُهم، واعتنقُوا هذا الدين عن حُبٍّ وإقبالٍ وطواعية، لما وجدوا فيه من فضل وعدلٍ ومُساواةٍ وتكريمٍ لإنسانيتهم ومؤاخاةٍ لهم مع غيرهم من أبناء الشعوب الإسلامية الأخرى على اختلاف أجناسهم لا فضل لبعضهم على بعض، ولا للَونٍ على لونٍ . فقاموا من جانبهم أيضاً بإتمام تبليغه لِمَن حولَهم ولِمَن بعدَهم ووراءهم بكل وسائل التبليغ المُمكنة، بالدعوة والموعظة الحسنَة أحياناً، وبالجهاد ـ إن اقتضى الأمرُ ذلك ـ أحياناً أخرى. وما كان لهذا الدين الحنيف أن يستمرَّ ويصمُدَ ، بل ويتوطَّد ويتجَذَّر طيلةَ القرون الماضية، لولا أن الأفارقة أنفسَهم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم، قد أقبلوا عليه بمحض إرادتهم ورغبتهم، وأحاطوه بحبِّهم ونَصَروه بسيوفهم ، وأسكَنُوه في أعماق قلوبهم وجوارحهم. أما العنصر المغربي فكان له دوران أساسيان: أولهما: أنه توسَّطَ بين هذين الطَّرَفين المشرقيِّ والإفريقي، بحمل المِشعل من يد هؤلاء ووضعه بكل أمانة في يد أولئك، وثانيهما: أنه بقيَ على الدوام في حماية هذا الدين ورعاية حامليه الجُدُد وإسنادهم ومُؤازرتهم وتأمين ظهورهم. إن الإسلامُ لم يكن ليستقرَّ في المنطقة التي نتحدَّث عنها إلا بواسطة المغاربة من أبناء الشمال الإفريقي عموماً والمغرب الأقصى على وجه الخصوص. فكما حمَلَ طارقُ بنُ زياد مِشعلَ الإسلام من يد والي المشرق على المغرب موسى بن نُصير، فوصَلَ به إلى العُدوة الأخرى من بَرِّ أوروبا الغربية، كذلك قام بحمل المِشعل من يد عُقبة بن نافع الفهري، ومَن جاء بعدَه من الوُلاة العرب، مجاهدون مغاربةٌ أبطالٌ انحدروا جنوباً إلى أدغال الصحراء ثم إلى ما وراءها ـ إلى أن وصلوا أرضَ السودان الغربيِّ عبرَ البَوّابات والمداخل المعروفة ( مراكش/ أُودَغست / ولاّتَة ـ سِجلماسة/ تَغازّة ـ الأغواط/ توات ـ طرابُلُس/ غُذامس... وغيرها من المَحَطّات والمعابر الصحراوية القديمة)[2]. وهنا يبرُزُ دورُ عبد الله بن ياسين الجَزُولي ذلك الفقيه المجاهد الذي أمضى سبعَ سنواتٍ يطلب العلمَ في الأندلس، وسنواتٍ أخرى في المغرب، ورابَطَ بجانب شيخه الفقيه الزاهد الوليِّ الصالح وجّاج بن زَلُّو اللَّمطي ( ت 445هـ) الذي أقام فترةً بالقيروان يتلقَّى العلمَ والفقه المالكي على يد شيخ المذهب في عصره أبي عمران الفاسي، ثم عاد ليخُطَّ طريقَه في مجال نشر الدعوة والإسلام السُّني الصحيح ومحاربة البِدَع والمُبتَدعة والخوارج وغيرهم، ويؤسس رباطه الذي أطلق عليه اسمَ ( دار المرابطين). لقد انطلق ابنُ ياسين ـ كما هو معلوم ـ من دار المرابطين هذه متجهاً نحو أقاصي الصحراء رفقةَ يحيى بن إبراهيم الجُدالي أميرِ قبيلة صنهاجة ذاتِ الفروع الثلاثة الكبرى المعروفة ( جُدالة ولمتونة ومَسُّوفة)، وقد كُلِّفَ بهذا الأمرـ بعد اختيارٍ دقيقٍ وصائب ـ من شيخه وأستاذه في الدين والمذهب والورع والجهاد وجاّج اللمطي الذي إنما فعلَ ذلك امتثالاً لتوصية الشيخ الكبير أبي عمران الفاسي نزيلِ القيروان، بأن يصطفي من قِبَله رجلاً يرتضيه لتولِّي مهمة تعليم قبائل الصحراء الممتدة إلى أرض السودان أُمورَ دينهم الذي اعتنقوه من قبلُ، وتعميق فهمهم له وإصلاح عقائدهم على مذهب أهل السُّنة والجماعة. ولكن الرجل لم يقف عند مهمته الدعوية في الصحراء، وإنما تطلَّع لما هو أعظمُ وأخطرُ، فكان المؤسِّسَ الحقيقي للدولة المرابطية. ثم استُشهِدَ ابنُ ياسين رحمه الله في إحدى معاركه مع البرغواطيين بالمغرب الأقصى( 451هـ) ، ليأخذ زمامَ صنهاجة أبو بكر بن عمر اللمتوني الذي عاد إلى الصحراء رفقةَ فقيه مغربي آخر هو أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي[3]، فأكمل الدور الذي بدأه ابنُ ياسين في الصحراء، وعُهِدَ إلى يوسف بن تاشفين إتمامُ مهمة تمهيد الشمال الإفريقي انطلاقاً من المغرب الأقصى. وبذلك أصبح المرابطون يتحكَّمون في إمبراطورية شاسعة مُوحَّدة تمتد أُفُقياً من الحدود المصرية إلى البحر المحيط، وعَمُودياً من بلاد الأندلس إلى حدود النيجر ونهر السنغال جنوباً. ولقد تحدَّث كثيرٌ من المؤرخين عن دور المرابطين والحاملين لواءَ دعوتهم من فقهاء ومجاهدين في نشر الإسلام بالصحراء الكبرى وما بعدها ووراءها من بلاد السودان، وقرَّر المحقِّقون منهم أن وجود الإسلام بهذه المناطق كان سابقاً لقيام أمر المُلثَّمين، وهناك شواهدُ وأدلة تاريخية كثيرةٌ على ذلك[4]، وإنما عمل هؤلاء في المقام الأول، على تصحيح فهم هذا الدين وتنقية العقائد من الشوائب والانحرافات والبِدَع والخرافات بحكم كونهم من أهل السُّنة وأنصار المالكية. فدورُهم كان إصلاحياً بالأساس، وهو الدورُ الذي قاموا به وركَّزوا عليه في الشمال من بلاد المغرب الكبير كله شرقاً وغرباً حين حاربوا البرغواطيّين وغيرهم من أصحاب النِّحَل والانحراف. لكن هذا لا يمنع من القول إنهم عملوا أيضاً، بجانب حركتهم الإصلاحية، على إتمام رسالة التبليغ والدعوة في المناطق الأخرى التي لم يكن الإسلامُ قد وصلَها من قبل. ثم إن تثبيت المرابطين لقواعدهم ورباطاتهم في أعماق الصحراء ابتداءً من أُودغست، التي استولوا عليها سنة 422هـ، وغيرها من المَحطّات والمُدن والرِّباطات التي استقرُّوا بها، قد أعطى لوجود الإسلام ـ بلا شك ـ دفعةً جديدة وقويَّة كانت بمثابة موجة عالية حَملَته إلى نقط بعيدة فيما وراء الصحراء التي كانوا سادتَهَا بلا مُنازِع، فانطلقَ داخلَ الأرض السودانية انطلاقَ السُّيول من قِمَم الجبال. وليس من قبيل الصُّدَف أن تشهد فترةُ القرن الخامس وبدايةِ السادس الهجري ـ وهو عصر المرابطين في الصحراء ـ ظهورَ ممالك سُودانية ذات طابع إسلامي وسيطرة مرابطية صحراوية جزئية أو كلية، وهي: مملكة تَكرُور على نهر السنغال التي أسلم مَلِكُها في هذا القرن واندمجت في دولة مالي الإسلامية بعد ذلك. وكانت قبائلُ أمازيغية من لَمطةَ قد تدفَّقت عليها منذ القرن السابع الميلادي ( الأول الهجري)[5]، ثم مملكة غانة التي أصبحت تحت سيطرة المرابطين منذ سنة 460هـ واندمجت أيضاً في دولة مالي بعد ذلك. وأخيراً دولة تُنبُكتُ التي أجمعت المصادر التاريخية على أن الذين أسسوها هم قبائل من الطوارق الملثَّمين قريباً من نهر النيجر[6]. ولم يأت القرنُ السادس الهجري حتى كانت دولةُ كانم وبُرنُو قد قامت حول بُحيرة تشاد على يد أسرة من الملثَّمين الطوارق، وقد زارها ابنُ بطوطة ووجد أهلَها مسلمين ومَلكُهم يسمى إدريس[7]. ومن ممالك الملثَّمين الُمُسلِمة التي زارها ابنُ بطوطة أيضاً في القرن الثامن مملكة تَكَدَّة وكان ملكُها إذ ذاك يسمى إزار، وقاضيها مغربياً يسمى إسحاق الجاناتي، وشيخُ المغاربة فيها سعيد بن علي الجزولي.. وذكر ابنُ فضل الله العُمري في المسالك ثلاث ممالك بربرية إسلامية في تلك المناطق المُحاذية للسودان أصبحت أراضيها فيما بعد جزءاً منه، وهي سلطنة آهير[8] وسلطنة نموسة وسلطنة تادَمَكَّة. ثم تتابعت الممالك الإسلامية الكبرى بعد ذلك كمملكة مالي ومملكة سُنغاي ودولة آل فودي. قلت قبل قليل: إن المغاربة قاموا بدور الوسيط الذي أوصل الرسالة إلى أهل السودان الغربي، كما قاموا بدور آخر وهو رعايةُ الإسلام في تلك الديار بحكم القرب والجِوار وحماية ظهره والدفاع عن وجوده والعمل على إرساخ جذوره وتثبيت دعائمه وتصحيح مسيرته باستمرار. ولذلك فإن الحضور المغربي وتأثيره القوي كانا متميِّزَينِ عبر التاريخ عن باقي المُؤثِّرات الأخرى. فأين تجلىَّ هذا الحضور والتأثير؟ أول مظهر من مظاهر الحضور الدائم والتأثير المغربي القوي يتجلى في الطابع المذهبي للإسلام الذي انتشر في أفريقيا الغربية وظل قائماً على حاله إلى يوم الناس هذا. فالإسلامُ في هذه المنطقة إسلامٌ سُنِّيٌّ على مذهب الإمام مالك[9] رضي الله عنه المشهور بوسَطيَّته واعتداله، وعلى العقيدة التوحيدية السَّلفية إلى عصر المرابطين و العقيدة الأشعرية ابتداءً من عصر الموحِّدين. وكان للمرابطين وفقهائه ودُعاته من المغاربة دورٌ أساسيٌّ في تثبيت هذا المذهب السُّنّي وعقيدة التوحيد الصافية في نفوس الأفارقة[10]. والعلماءُ والفقهاءُ الذي توافدوا على المنطقة من الشمال الإفريقي بعد ذلك وعلى مرّ العصور، كانوا جميعاً من أصحاب هذا المذهب وهذه العقيدة، وحتى الفرقُ والمذاهبُ الصوفية التي انتشرت هنالك كانت فرقاً سُنية مُعتدلة كالسَّنوسية والزرُّوقية والقادرية والتيجانية. ومناهجُ التعليم التي وُضِعت وطُبِّقت عبر المراحل التاريخية المختلفة كانت تقوم على أساس كتُب الفقه المالكي بأًصوله وفروعه وشروحه وحواشيه. وكلُّ العلماء الذين برَّزوا واشتهروا في السودان الغربي كانوا من فقهاء المالكية وعلمائها بلا استثناء. لذلك نجد أسماءهم تملأ كتبَ طبقات المالكية كالديباج لابن فرحون، ونيل الابتهاج وكفاية المحتاح للتُّنبكتي ، وشجرة النور لابن مَخلوف ، وغيرها. أما المظهر الثاني من مظاهر الحضور والتأثير، فيتجلى في مناهج التعليم ومصادره ومراجعه وأسانيده. فهي في أغلبها مغربية روحاً وجَسَداً. والمنهجُ المغربي في التعليم يبرزُ منذ الدخول إلى الكُتّاب والبدء في حفظ القرآن برواية ورش، إلى تعلُّم الكتابة بالخط المغربي المعروف والمتميِّز بشكله ورسمه ونُقَطه وترتيب حروفه[11]، إلى حفظ المتون الفقهية واللغوية والأدبية، ثم مرحلة التبحُّر في مختلف العلوم باستخدام المصادر والمراجع المغربية والأندلسية في غالب الأحيان، باستثناء بعض المصادر السُنية المشرقية ( المالكية وغيرها) كان المغاربةُ أنفُسُهم يعتمدونها ويرجعون إليها كمختصر خليل وشروحه وكتب السيوطي وابن حجر ... وغيرها. وقد أورد المرحوم الأستاذ إبراهيم الكتاني في مقدمة تحقيق كتاب فتح الشكور للولاتي، قائمةً طويلة بأسماء الكتب المغربية التي كانت تُدرس في مراكز التعليم بالسودان الغربي، كالشفا لعياض، ودلائل الخيرات للجزولي، ومقدمة ابن آجرُّوم في النحو، وشرح المكودي على الألفية، والمرشد المُعين لابن عاشر، ولامية الزَّقاق، والدُّرَر اللوامع لابن بَرِّي التازي، وإضاءة الدُّجُنَّة للمقَّري، وشرح الحكَم العطائية للشيخ زروق الفاسي، والمدخل لابن الحاج، والشروح المغربية للمدوَّنة وغيرها من كتب الفقه المالكي. هذا فضلاً عما ورد في حديث طويل له عن الأسانيد المغربية في الروايات والإجازات التُّكرورية السودانية. وقد سبق لي أن بيَّنتُ في بحث آخر[12]، عُمق التأثير المغربي في مؤلفات الشيخ عثمان بن فودي وأخيه عبد الله وابنه محمد بلُّو، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أكبر العلماء وأكثرهم تأليفاً في عصرهم، ممن يمكن اعتبارُهم بمثابة نماذج لسواهم من علماء السودان الذين نجد في فهارسهم وأسانيد شيوخهم لائحةً بأسماء الشيوخ المغاربة والأسانيد المُتَّصِلة بهم في الرواية والأخذ والإجازة والإسناد، وفيها أيضاً صورةٌ واضحة عن هذا التأثير. والجانب الثالثُ يتجلَّى في الطُّرُق الصوفية التي انتشرت بأفريقيا الغربية. فكلُّها طرُقٌ مغربية كالسنوسية والزرّوقية والشاذلية والناصرية الدَّرعية والتيجانية. أما القادرية فهي وإن كان منشأُها مشرقيا ( نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني)[13]، إلا أنها تَكيَّفت واصطبغت بالصبغة المغربية منذ أن دخلت إلى المغرب في القرن السادس الهجري ( الثاني عشر الميلادي) ـ فيما قيل ـ على يد الشيخ أبي مدين شُعيب الغَوث دفين الجزائر[14] ، وأخذت بعضُ فروعها أسماء مغربية. وكان الذين نشروها في السودان الغربي هم الشيوخُ الكُنتيّون الذين أقامت أُسرتُهم فترة بمنطقة توات، ثم تعمَّقوا في قلب الصحراء ومناطق من السودان الغربي.، ومنهم أحمد البَكاء وابنُه الشيخ عمر الذي أصبح ـ كما يقول بول مارتي ـ :« الرئيس الأعلى للطريقة »[15]وأطلق اسم أبيه على فرع القادرية الذي هو مؤسِّسُه، ويقصد الطريقة البكائية التي نشأت في زاويتهم بتوات. وفي عهد الشيخ المختار بن أحمد الكنتي المعروف بالكُنتي الكبير( ت1811هـ) أُحدِثَ في أزواد فرعٌ آخر جديد للطريقة القادرية سُمِّي بالطريقة المُختارية نسبة إلى الشيخ المختار،.على أن الشيخ عمر نفسه أخذ الطريقة عن الداعية الكبير أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي الذي اعتبره بول مارتي أيضاً « الرئيس الأعلى للطريقة القادرية في الغرب الإفريقي» كله. وكان الشيخ عثمان بن فودي نفسه قادريَّ الطريقة ، وقد أوصل سلسلةَ سنده في هذه الطريقة بالشيخ المغيلي. ولا شكَّ أن تأثير الطرق الصوفية المغربية في هذه المنطقة تأثير قويٌّ جداً ما يزال فاعلاً وحاضراً في كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية على اختلافها، ولا شكَّ أيضاً في أنها قامت بأدوار وأدَّت خدماتٍ جليلةً بإسهامها الكبير في نشر الدين والثقافة والتعليم العربيَّين الإسلاميَّين، من جهة، وبصمود رجالها في وجه الغزو الاستعماري والثقافي في العصر الحديث من جهة أخرى. أما المظهر الرابع فيتجلى في دور علماء المغرب وفقهائه ودُعاته، سواءٌ منهم الذين كان تأثيرُهم مباشراً بحضورهم في أرض السودان أو الحضورِ إليهم في أرض المغرب، أم غيرَ مُباشِر بواسطة كتُبهم ومؤلفاتهم التي انتشرت واشتهرت في أفريقيا الغربية، وأصبحت تمثِّل المصادرَ والمراجع المعوَّل عليها والمتونَ التي لا بد من حفظها واستظهارها والاستشهاد بأقوالها ونصوصها. فأما الوافدون من فقهاء المغرب وعلمائه ودُعاته، فكانت رحلتُهم إلى السودان الغربي مستمرّةً طيلة مراحل التاريخ الإسلامي دون انقطاع. ونحن وإن كنا لا نجد لائحةً بأسمائهم في القرون الأربعة الأولى للهجرة، فإن الدليل على وجودهم قائمٌ، وحضورهم ثابتٌ لا شكَّ فيه. فالإسلامُ لم يكن ليصل إلى تلك البقاع، ويستقرَّ في تلك الأصقاع قبل المرابطين، دون دعاة وفقهاء وأئمة كان همُّهم في نشر رسالة التوحيد وثقافة الإسلام ولغة القرآن وليس في تخليد أسمائهم. وابتداء من العصر المرابطي، بدأنا نعثر على أسماء فئةٍ من هؤلاء أمثال عبد الله بن ياسين الجزولي، وأبي بكر الحضرمي المرادي، وأبي عبد الله بن وانسول السجلماسي أحد مصادر ابن خلدون المعتمدة في أخبار مالي[16]، والفقيه محمد بن محمد بن علي اللمتوني صاحب المسائل الفقهية التي بعث بها إلى السيوطي مستفسراً سنة 891هـ[17]، وأبو عثمان سعيد الدكالي الذي أقام بمملكة مالي مدة طويلة ( خمسة وثلاثين عاماً) وكان من أهم مصادر ابن فضل الله العُمري الشفوية عن أحوال السودان[18]، وهناك أسماء أخرى لفقهاء وقضاة وغيرهم ذكرهم ابنُ بطوطة في رحلته للسودان (القرن الثامن الهجري) مثل الفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان بمدينة كوكو[19]، ومحمد بن الفقيه الجزولي بعاصمة مالي[20]، وصهره الفقيه المقرئ عبد الواحد،[21]، وعلي الزُّودي المراكشي من الطلبة[22] ، وأبي إبراهيم إسحاق الجاناتي قاضي تَكَدَّة[23]، والفقيه محمد بن عبد الله من أهل تكدَّة أيضاً[24]، فضلاً عن جماعة آخرين ممن لم يذكر صفتهم[25]. وكان لعلماء توات ـ وخاصة أسرة الكُنتيّين ـ حظوةٌ خاصة عند ملوك بُرنو الإسلامية ويعتبرونهم من المرابطين وينظرون إليهم نظرة إكبار وتعظيم، ويسعون لاستقدامهم إليهم وإغرائهم بالإقامة بينهم. وقد احتفظت لنا بعضُ المصادر بنصَّ رسالة وجَّهها أحدُ سلاطين برنو سنة 843هـ إلى هؤلاء المرابطين في منطقة توات يقول فيها :« فقد عجبنا من أمركم لماذا تركتم عادة كبرائكم؟ لماذا قصَّرتم عن النزول وإرسال البعثات إلى بلادنا منذ عهدكم مع كبيرنا .... فأنتم لم تعودوا إلينا منذ ذلك الحين ... فعليكم أن تأتوا إذن كعادتكم ... لأن البلاد بلادكم كما كانت بلاد أسلافكم ..»[26]. ومن أشهر مشاهير العلماء الذين قدموا من توات، فزاروا المنطقة وأقاموا فيها واحتفظت لنا كتبُ التاريخ بأسمائهم: نذكر في مقدمتهم أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي (909هـ) صاحب التصانيف والرسائل والأجوبة المعروفة. كانت له حظوةٌ كبيرة عند ملوك كانُو وكاتشينا ببلاد الهوسا، وملك السُنغاي أسكيا الحاج. كما كانت له اليدُ الطُّولى في رسم خطوط السياسة الشرعية لهذه الإمارات وتعيين القضاة وإقامة الحُدود الشرعية، وإصلاح أمور المجتمع الدينية والدنيوية والتعليمية والثقافية، وتكوين الأئمة والمُرشدين والفقهاء والدعاة، وتقديم المشورة والنًّصح للحكّام وذوي الأمر الذين كانوا ينزلون عند رأيه وأحكامه ومشورته ولا يُمضون شيئاً ذا بال إلا بموافقته. وقد ترك المغيلي مجموعة فتاوى ورسائل فيها تحديدٌ وتوجيه لمعالم الطريق التي ينبغي أن يسلكها الحُكام في سائر أمورهم ، فصار له شأن كبيرٌ عندهم، واستمرَّ تأثيره أجيالاً من بعده حتى وجدنا خلفاء الدولة العُثمانية الفوديوية بعد حوالي ثلاثة قرون يعتبرون كتبَه ورسائله وفتاواه المِشكاةَ التي بها يستنيرون، والمَعلَمَ الذي به يهتدون، فلا يفترون عن ذكره والاحتجاج بأقواله وأرائه في كل ما تركوه من أعمال ومصنَّفات[27]. ويندر جداً أن تجد كتاباً من كتب تاريخ السودان الغربي حديثاً أو قديما، خالياً من ذكر المغيلي ومآثره. ولم يكن المغيلي وحده صاحب الشأن والتأثير، فقد جاء آخرون أيضاً وكان لهم دورٌ كبير في الحياة العلمية والثقافية بكانو وكانشينا، منهم الفقيه البلبالي ( مخلوف بن علي بن صالح) ( ت بعد 949هـ)، وعبد الرحمان سُقَّين (ت956هـ ) تلميذ ابن غازي وغيرهما. وما هؤلاء الذين ذكرناهم سوى عيِّنة ممن احتفظ التاريخُ بأسمائهم، من العلماء والفقهاء الذين وفدوا إلى إفريقيا وتركوا فيها بعض آثارهم وبصماتهم. مع العلم أن كتابة تاريخ العلم والعلماء في المنطقة لم تبدأ في الظهور إلا مع أوائل القرن العاشر الهجري، أي مع ظهور كتاب كعت المسمى تاريخ الفتاش الذي بدأ صاحبُه في كتابته سنة 925هـ[28]، وما تبعه من مؤلفات أخرى ككتابَي أحمد بابا التنبكتي النَّيل والكفاية، وتاريخ السعدي المعروف بتاريخ السودان ، ثم تذكرة النسيان ، وما تبعها من بقية الكتب الأخرى.، أما قبل ذلك فلم تكن لدينا وثائق أو فهارس بها أسماء العلماء. ولذلك لا غرابة أن تضيع أسماءُ الكثير من العلماء والفقهاء المغاربة الذين أسهموا في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية وبناء النهضة العلمية طيلة القرون التسعة الأولى، إلا ما جاء عَرضاً على لسان بعض الرَّحالة والمؤرخين والجغرافيّين ممن دخلوا المنطقة ( كابن بطوطة وابن الوزّان) أو وصفوها من بعيد كالبكري والعُمَري والإدريسي والمقريزي وابن خلدون وسواهم. وقد اهتم الرحّالةُ الغربيّون بدورهم منذ بدأوا استكشاف الصحراء وإفريقيا الغربية، بتسجيل ظاهرة الوجود العربي والعنصر المغاربي في المنطقة والتحدُّث بذلك في كتاباتهم. فقد كتب الرحّالة البرتغالي ألفيس دا كادا موستو(َAlfise da Cada Musto) الذي زار منطقة السنغال في القرن الخامس عشر أنه يوجد بجانب السلطان فقهاء وأئمة دين من المغرب والصحراء يرافقونه ويُملون عليه ما ينبغي تطبيقُه من أحكام . وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي كتب مؤرخ برتغالي آخر وهو( فرنانديز:Fernandes ) عن وجود علماء دين آخرين جاؤوا من فاس أو مراكش كانوا مقيمين في السنغال. وهناك رحّالة غربيون من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لاحظوا هذه الظاهرة أيضاً في مناطق مختلفة من إفريقية، ومنها منطقة الكاميرون ، وسجَّلوها في كتاباتهم [29]. وهناك في مقابل الوافدين من المغرب على السودان الغربي، فئةٌ من الأفارقة قدموا إلى المغرب في رحلات عِلمية خاصة، فأقاموا به وأخذوا عن أشياخه وعلمائه، وفئةٌ أخرى جاءت في رحلات سِفارية أو حَجِّية ، فوجدت في إقامتها مناسبةً للاحتكاك بعلماء المغرب والاطلاع على مؤلفاتهم وربط الصلة العلمية المُباشِرة بهم . ولعل صيتَ الأديب الشاعر أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي (ت608 أو 609هـ ) ـ أقدمِ الوافدين الأفارقة المعروفين إلى المغرب ـ قد طرق الأسماعَ في كل بقاع الأرض، بسبب بيتين رائعين أنشدهما في مدح الأمير الموحِّدي يعقوب المنصور وهما قوله: أزالَ حِجابَه عني وعَيني تَراهُ من الَمهابة في حِجــابِ وقَرَّبنـي تفضُّلُــه ولكــن بَعُدتُ مَهـابةً عنــد اقترابــي ورغم أن السبب في وجود الكانمي بالحضرة المراكشية واتصاله بأميرها المنصور غيرُ معروف على وجه الدقة، إلا أنه من الثابت أن الرجل اختلط بالأوساط العلمية لعاصمة الدولة المُوحِّدية، وكانت يومها تعجُّ بالعلم والعلماء، وقرأ فيها وأقرأ، ورحل منها إلى الأندلس ثم عاد إليها وقضى فيها بقية حياته إلى أن وافاه أجله[30]. ومن أعلام السودان الذين رحلوا إلى المغرب أيضاً الإمام القاضي كاتب موسى في عهد سلطان مالي منسا موسى ( ق8هـ). وقد كان من كبار المشايخ وتولى إمامة المسجد الكبير بتنبكتُو. قال عنه السعدي في تاريخه:« وهو من علماء السودان الذين رحلوا إلى فاس لتعلُّم العلم في دولة أهل مالي بأمر السلطان العدل الحاج موسى »[31]. وفي هذه الإشارة ما قد يفيد بأن هذا السلطان ـ على الأقل ـ كان يرسل بعثات طلابية للتعلُّم في المغرب، وربما كان يقدِّم لهم من المعونات المالية وغيرها ما يقوّي عزمَهم ويشجّعهم على تحمُّل أعباء الغربة والإقامة في طلب العلم. ولم يكن كاتب موسى أولَ شخص يُبعَثُ إلى المغرب للتبحُّر في العلوم في عهد هذا السلطان المعروف بشغَفه بالعلم والكُتُب والثقافة العربية، فمن الطرائف التي حكاها السعدي في تاريخه أن الملك َمنسا موسى حين رحل للحج رجع ومعه الشيخ عبد الرحمان التميمي ليستعين به على نشر العلم في بلده مالي، ولكن هذا الفقيه المشرقي لم يكن له شُفوف على علماء السودان وطلبتها، فوجد نفسه مضطراً للرحلة إلى المغرب لزيادة التعلُّم وخاصة في الفقه المالكي وفروعه. قال السعدي متحدثاً عن الشيح يحيى التادلسي ( ت864هـ) وهو من علماء تُنبكتُو الكبار: « وروي أن طلبة سَنكَري إذا جاؤوه لأخذ العلم يقول: يا أهل سَنكُري، كفاكُم سيدي عبد الرحمان التميمي، وهو جاء من أرض الحجاز صحبة السلطان موسى صاحب مالي حين رجع من الحجِّ، فسكن تُنبُكتُ وأدركه حافلاً بالفقهاء السودانيّين، ولما رأى أنهم فاقوا عليه( كذا) في الفقه، رحل إلى فاس وتفقَّه هنالك، ثم رجع إليه فتوطَّن فيه ... »[32]. وإذا كان لنا ما نعلِّق به على هذه القصة، فهو أن الرحلة إلى المغرب وعواصمه، كانت عند أهل السودان من الأمور التي تُكسب صاحبَها جاهاً ومكانةً بين العلماء، وأن طريق الفقه المالكي إنما يُوتَى من المغرب لا من المشرق. والظاهر أن الذي دفع التميمي إلى الرحلة للمغرب وحَفَّزَه لها هو السلطانُ موسى، ولاسيما أنه كان بجانبه مستشارٌ أندلسيٌّ مغربي ذو كلمة نافذة هو أبو إسحاق إبراهيم الساحلي الذي زار المغرب هو الآخر في سِفارة بين سلطان مالي وأبي الحسن المرينيّ. ويقول أحدُ الباحثين المتخصّصين في العلاقات الثقافية المغربية السّودانية، إن ظاهرة الرحلة لطلب العلم بالمغرب، أخذت مع بداية القرن التاسع الهجري، « تعرف نمُواً مطَّرداً ومُتزايداً، ويتضح لنا ذلك من خلال بروز عدد من العائلات العلمية السودانية، نخصُّ بالذكر منها عائلتَي أقيت وبُغَيغ اللتين لمع نجمُهما في بلاد السودان منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري. وكان العديدُ من أعلام هاتين الأسرتين قد دخل المغرب ليأخذ من فقهائه. ومنهم من توفي ودفن بالمغرب»[33]. وبمناسبة الحديث عن أسرة أقيت، وهي أسرة صنهاجية كبيرة، يجب أن لا نغفل ذكر عُمدة هذه الأسرة وأُسطوانتِها ورَحاها في العلم والمشيخة ومفخرتها عبر التاريخ، ونعني به أبا العباس أحمد بابا التنبكتي الصنهاجي. فرحلتُه إلى المغرب التي دامت حوالي أربعة عشر عاماً ( 1002 ـ 1016هـ)هي أشهر رحلة في تاريخ العلاقة الثقافية بين المغرب والسودان. ورغم أن الرجل لم يأت المغرب طائعاً ولا راغباً وإنما أُكرِهَ على المجيء، لكن نازلته هذه من النوازل التي يصدقُ عليها قولُ الله تعالى وعسى أن تَكرَهُوا شيئاً وهو خَيرٌ لكُم(. فقد أخذَ عنه في مراكش خلقٌ كثير، ولكنه بالمقابل أخذ وقرأ وألَّفَ واطَّلعَ على ما لم يكن ـ وهو بالسودان ـ ليطَّلع عليه أو يصل إليه من النوادر ونفائس الكتب التي حمل بعضَها معه. وقد اعترف أحمد بابا نفسُه في بعض مؤلفاته بهذا الفضل، فضلِ إقامته بالمغرب وما عادت عليه بالنفع العميم[34]. بل إن أحمد بابا لم يكن لينال تلك الشهرة التي نالها والصِّيتَ الذائعَ الذي أصبح له، لولا تلك الرحلة التي لقي فيها مَن لقيَ، وتلمذَ له من تتلمذَ. وما كان مجيءُ أحمد باباً لوحده في تلك الرحلة التي أُكرِهَ عليها، وإنما جاء معه آخرون معدودون في أسرته وأصحابه، نالوا بدورهم ما ناله من نصيب الاطلاع والاستزادة من زاد المعرفة. ومن أشهر علماء السودان الغربي الذين كانت لهم رحلةٌ إلى المغرب في نهاية القرن الثاني عشر الهجري ( الثامن عشر الميلادي)، الشيخ محمد الأمين الكانمي الذي أصبح أميراً على بلاد بُرنو في تشاد الحالية. وكانت له قبل ذلك رحلة إلى المشرق، ثم عرَّج على بلاد المغرب فأقام في فاس مدةَ سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان وغيرها[35]. ومن أشهرهم أيضاً أحمد بن القاضي أبي بكر الفُوتي أصلاً الدَّوجقي مولداً ثم التُّنبُكتاوي الجَنّاوي، من أهل القرن الثالث عشر الهجري. فقد زار تونس خلال رحلته الحَجّية، كما زار مدينة فاس وأقام بها أيام المولى سليمان العلوي، وقرأ على عدد من مشاهير علمائها في ذلك الوقت كمحمد الطيب بن كيران ، وإدريس العراقي ، وأحمد بن الشيخ التاودي، وأبي عبد الله محمد الزروالي ، ومحمد بن عبد السلام الدرعي ، وغيرهم[36]. ومنهم في القرن الثالث عشر الشيخ الحاج عمر بن سعيد الفُوتي ( ت 1284هـ) الذي كان على الطريقة الصُّوفية التيجانية، وكانت له رحلة للحج وطلب العلم ، فزار فاس وتلمسان والقيروان وبرقة والقاهرة ، وفيها وفي غيرها من البلاد التي مرَّ بها وأقام، جلس لتلقّي العلم والأخذ عن علمائها[37]. وُيضاف هؤلاء الذي ذكرنا من الأعلام الوافدين على المغرب، إلى ما أورده المرحومُ إبراهيم الكتاني من أسماء أخرى كثيرة، في مقدمة تحقيق فتح الشكور، وإلى أسماء غيرها واردةٍ في مصادر متعدِّدة، فلتُراجَع في مكانها. هذا عن العلماء الوافدين من المغرب وإليه. وبجانبهم نشأت شريحةٌ كبيرة من العلماء الأفارقة من ذوي الأصول الصحراوية والمغربية نجد أسماء عدد غير قليل من أفرادها في مؤلفات أحمد بابا التنبكتي وخاصة كتابي النَّيل والكفاية، وفي كتابي السَّعدي وكعت، فضلاً عما ذكره المتأخرون من أمثال الشيخ العتيق بن الشيخ سعد الدين الدغوغي السُّوقي في كتابه الموسوم بالجوهر الثمين في أخبار صحراء الملَّثمين ومَن يُجاورهم من السَّوادين[38]. ولو أردنا أن نقتصر فقط على أسماء الأسر العلمية ذات الأصول الصحراوية المغربية، لما وجدنا أحسن من كتاب البرتلّي الولاتي المعروف بكتاب: فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التُّكرور، شاهداً على كثرتها وتفرُّعها. فقد أتى المؤلف على ذكر مئتين وخمس عشرة ترجمة لعالم أو فقيه، أغلبُهم ينحدر من أسر مغربية أو صحراوية عربية أو أمازيغية. ومن هذه الأسر ذات الأصل الصحراوي والمغربي التي تسلسل العلمُ في أعقابها، وعلماؤها معدودون في علماء التكرور ( السودان) الذين أوردهم البرتلي، نذكر على سبيل المثال: أسرة آل أقيت الصنهاجية التي ينتسب إليها أحمد بابا وجدُّه وأبوه وإخوانه، وأسرٌ أخرى كأل التواتي ، والولاتي ، والغلاوي ، والفيلالي ، والوداني ، والكُنتي، والديماني ، والسُّوقي ، والجكني ، والحنشي ، والأرواني ، والدليمي، والوافي ، والمحضري، والبابالي، والتادلي، والدكالي ... وغيرهم. والحديث عن الأسر العلمية المنحدرة من مناطق شمال السودان، يقودنا إلى التوقف عند مظهر خامس من مظاهر التأثير المغربي وهو المتمثِّل في العنصر البشري الطارئ على العناصر السُّكانية المحلّية. فقد كان سكانُ السودان الغربي يتكوَّنون أساساً من عنصر زِنجي إفريقي قديم وهو الغالب، وعنصر بربري قادم من الصحراء في فترات سابقة للإسلام[39] وهو يمثل أقلية من البيضان. ولكنه بعد دخول الإسلام أصبح العنصر البربري الصحراوي القادم من الشمال يتقَّوى جيلاً بعد جيل، ولاسيما في العصر المرابطي وما بعده. وليس التوارقُ المنتشرون في عدد من دول جنوب الصحراء ( وخاصة في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاصو ..) إلا من هؤلاء الملثَّمين القدامى، وهم خليطٌ من البربر والعرب المُتبربرين. ولقد كان لهم دور كبير في تأسيس دول وممالك في مالي وغيرها. على أن العنصر الزِّنجي نفسه كثيراً ما وجدنا قبائل منه تحاول ربط نسبها بالعرب (من أبناء عقبة أو عرب اليمن الحِميريّين أو ترفع نسبها إلى علي بن أبي طالب). وعرف العهد الإسلامي أيضاً هجرة بعض القبائل العربية القادمة من الشرق إلى المغرب ومنهم قبائل بني حسان ومَعقل والشاوية المعروفون اليوم في نيجريا بعرب الشوا[40]. وقد عرفت المنطقة عبر التاريخ موجات عديدة من هجرة القبائل العربية والبربرية من الصحراء إلى السودان، واندمج أبناؤها مع العنصر الزنجي على فترات، ولاسيما بعد أن توسَّعت مملكةُ السُّنغاي الإسلامية وأصبحت تضم ولاتة وتغازّة وتَدَمَكَّة[41]وتكدَّة وأهير وغيرها من مدن الصحراء ومناطقها وتعتبرها جزءاً من أراضيها وخاصة في عهدي سُنِّي علي وأسكيا الحاج. ومنذ بداية القرن الحادي عشر الهجري الذي عرف دخول جيش المنصور السَّعدي إلى مالي واستقراره مع أُسَره ومَن تناسل منه من أجيال طيلة قرون، ازدادت قوةُ العنصرين العربي والبربري وأضيفت عناصرُ أخرى من الأتراك والأندلسيّين ذوي الأصول المختلطة الإسبانية العربية الأمازيغية. وهكذا أصبح المجتمع الإفريقي في تنبكتو وجِنّي وجاوةَ وغيرها من المدن والمناطق المتَّصلة بها، مكوَّنة من خليط من العناصر السكانية، كنتَ تجد فيه الفاسيَّ والمراكشي والدرعي والزعري والدكالي، والدغوغي،والجزولي، والمسُّوفي، والصنهاجي، واللَّمتوني، والجاناتي ، والأندلسي، والجزائري، والتواتي، والتلمساني، فضلاً عن العُلوج الإسبان والأتراك الذين كانوا قد دخلوا في الجيش السعدي. ومن أهل القبائل المغربية الأخرى: شراكة والشياظمة وحاحة، وتادلة، وأهل ماسّة، وشتوكة، وأولاد جرار، وأولاد عمران، والمنبهيّين، وفشتالة، ومن أهل الأطلس والغرب والصحراء وغيرها من المناطق الأخرى. وقد تحدثت بعضُ المصادر عن أحياء تنبكتو التي كانت تقطنها هذه العناصر من جيش ( الرُّماة) المغربي، وأماكن سُكناهم الأخرى في جِنّي وغيرها من المدن والقرى[42]. وهكذا أصبح من الطبيعي أن يكون لهذا العنصر المغربي الآتي من مناطق مغربية شتّى، قوياً ومؤثراً بعاداته وتقاليده ولباسه ومطبخه وثقافته ولغته . ولو أردنا التوقُّف عند الجانب اللغوي من جوانب التأثير لهذه الكتلة السُّكانية المغربية التي تناسَلت وتكاثَرت وتعاظمَ شأنُها مع الأجيال والحقب والقرون، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من تركيبة المجتمع السوداني إلى اليوم، لكفانا، في تلمُّس هذا الأثر، ما نجده في النصوص التاريخية الثلاثة المشهورة وهي: تاريخ السعدي وتاريخ الفتاش وتذكرة النسيان، من عشرات الألفاظ المغربية. وقد عنَّ لي أن أشتغل بهذا الموضوع خلال فترة إقامتي بالنيجر، فاستخرجتُ من هذه المصادر الثلاثة قاموساً غنيّاً بالألفاظ المغربية التي نقلَها المغاربةُ في جملة ما نقلوه من ثقافتهم وعاداتهم إلى السودان، سنعمل على نشره في أقرب فرصة بحول الله تعالى. وتتناول هذه الألفاظ مختلف جوانب الحياة من لباس وأدوات وأطعمة وأسلحة وحرف وصناعات ومهارات ومعارف وعادات. وهذه نماذج مختارةٌ منها: الباشا ـ البارود ـ البراوة / البرا ـ البُرنس ـ البرّاح ـ الحانوت ـ الحومة ـ الحيوط (ج: حائط) ـ المخزن ـ المخازني ـ الجنان ـ الثقاف ـ التحريكة ـ التحزيمة ـ الشاشية ـ المحلة ( المُعسكَر) ـ الحُوت ـ الخابية ـ الرحبة ـ الرغايف ـ الزربية ـ الزغاريت ـ الزمام ـ المزوار ـ سافط ( أرسل) ـ المشور ـ المشاور ـ شاوش ـ مطيار ـ طيّر الماء ـ الظهير ـ العرصة ـ غيّاط ( ج: غياطة) ـ الفرَجية ( لباس) ـ قربوس ـ قفطان ـ الكاهية ـ تكمَّش ـ مولاي ـ شربيل ـ الروز ـ الروضة ( المقبرة) ـ الروى ( الأروى) ـ الطار ـ المُونة ـ الشكارة ـ الطيفور ـ اللحيفة ( اللحاف) ـ المكحلة ( البندقية) .... وهناك عشرات الكلمات والتعبيرات الأخرى ذات الاستعمال المغربي المعروف. وهي من حيث أصولُها الاشتقاقية إما عربية محرَّفة من الفصيح، وإما أمازيغية أو متأثِّرة في صيغتها الصرفية بالأمازيغية، وإما من أصل تركي دخل مع العناصر التركية التي استعملها السعديون في جيوشهم. وظاهرةُ انتشار الألفاظ المغربية في لغة أهل مالي، ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها تستحقُّ منا وقفةً خاصة. فالظاهرُ أن استعمالها لم يكن مقصوراً على أولئك الكتّاب المؤرخين الثلاثة الذين كان من المفروض أن يتجنَّبوا استعمالها لأنها من العامِّي الدارج لا من الفصيح المُستعمَل في الكتابة والتأليف بكل أقطار العالم الإسلامي. ولكن اضطرارهم لاستعمالها دليل على كثرة شيوعها مع كثير غيرها من العامية المغربية، في بيئتهم ومجتمعهم السُّوداني، ودليلٌ أيضاً على أنها كانت طاغيةً ومتغلِّبة حتى على الفصحى نفسها، وأن الطبقة المثقَّفة في تلك البيئة لم تكن تجد حرَجاً من استعمالها في التأليف والكتابة، وربما كان في ذلك دليل ًعلى ضعف المستوى التعليمي عند هؤلاء المؤرخين. على أنه من الثابت، من ناحية أخرى، أن لا أحد من أصحاب المؤلفات الثلاثة المذكورة، غادرَ بلدَه إلى المغرب حتى نقول إنه التقطَ تلك الألفاظ من البيئة المغربية التي رحل إليها. فكلُّهم وُلدوا ونشأوا وماتوا بالسودان، وكلُّ ما هنالك أنهم نشأوا في مجتمع مكوَّن من جالية سُكانية مغربية كبيرة وذاتُ تأثير قوي، ومع مرور الوقت أصبح كلامُها جزءاً من كلام السكان عامة. وقد بحثتُ عن هذه الظاهرة في غير هذه الكتب المالية الثلاثة، فلم أعثر على طائل، سوى كلمتين اثنتين وردتاُ في رسالة ألَّفَها أحمدُ بن القاضي الفُلاني الدَّوجقي الذي نشأَ وتعلَّم وأقام تارةً في تُنبكتُو ثم جِنِي وإليهما نسبَ نفسه فقال ( التنبكتاوي أُفُقاً الجناوي قراءةً )، وهي بعنوان: هَتك السِّتر عما عليه سودانُ تونس من الكُفر[43]، وقد ألَّفها وقدَّمها لحاكم تونس حمودة باشا ( ت 1813م) عند عودته من الحجّ وقبل زيارته لفاس التي ذكرنا سابقاً أنه أقام بها فترة ولقي فيها عدداً من العلماء والأشياخ. أي أن ابن القاضي جاء من منطقة تنبكتو وجني وهو يحمل معه آثارَ اللهجة المغربية من قبل أن يدخل المغرب ويلقى أهلَه ويستمع لكلامهم ويتأثر بلغتهم. والطريف في كتابات ابن القاضي أن نجد عدداً من الألفاظ جاءت من أصل إفريقي، وأصبح أغلبُها مستعملاً في العامية المغربية منذ العصر السعدي ( ق10هـ / 17م) أي منذ دخول جيوش أحمد المنصور إلى تنبكتو وما وراءها من المدن والأقاليم السودانية. ومن هذه الألفاظ نذكر: كمبري ( آلة موسيقية ـ بَمبارا ـ كناوة ـ تكدَّة ـ تُوري[44]ـ دِردِبة ـ دُندُف ( آلة موسيقية) . فهذا ضربٌ من ضروب التأثير المتبادل بين المغرب وبلاد السودان الغربي. وضربٌ آخر تحدَّث عنه ابنُ القاضي في كتاباته أيضاً ويتجلى في بعض العادات الشعبية الإفريقية التي انتقلت إلى المغرب عن طريق المجلوبين من بلاد السودان، ومنها مظاهر السحر والشَّعوذة وفنون الرقص والغناء المرتبطة في الأصل بعبادات ومعتقدات دينية إفريقية، وقد اعتبرها ابنُ القاضي من المظاهر المنافية لروح العقيدة الإسلامية الصحيحة وطالب حكامَ تونس والمغرب بالتدخل لمحاربتها. وذلك مظهر سادس من مظاهر التأثير الذي نتحدث عنه. والمظهر السابع، هو الذي يتحدث عنه كثير من المؤرخين والباحثين من قدامى ومُحدَثين، حين يتعرَّضون لسيرة رجل من أصل أندلسي كان مقرَّباً جداً من سلطان مالي الحاج منسا موسى، وجاء معه عند رجوعه من الحج، بعد أن أُعجِبَ به أيَّما إعجاب، فاتخذه مستشارَه الخاصَّ والمُشرفَ على إنجاز كثير من المشاريع الثقافية والعُمرانية، ونعني به أبا إسحاق إبراهيم الساحلي( ت747هـ) الذي كُلِّف بمهمة تطوير العُمران في دولة مالي، فأنجزَ بناءَ قصور للسلطان ومساجد وغيرها على طريقة العمران السائد في جنوب المغرب وقت ذاك، والقائم أساساً على الطين المضغوط بالخشب، والزخارف والنقوش والأصباغ الأندلسية المغربية التي اعتمد فيها على مواد محلية. فكان هذا النمط من العمران جديداً على أهل السودان، فنال إعجابَهم وإكبارَهم. وقد تناول أستاذنا العلامة محمد ابن شريفة شخصية الساحلي بالدرس والتحليل وتطرَّق إلى تكوينه الأدبي والعلمي المتعدِّد الجوانب وأعماله ومنجزاته في بلاد السودان وما كان لها من تأثير في تنمية الأذواق وتغيير أنماط اللباس والعمران والتعليم والسلوك، وختَمَ ذلك بالقول إن عمل الساحلي وتأثيره في السودان لم يكن ليقلَّ عن عمل زِرياب وتأثيره في بيئة الأندلس. وقد أشار السعدي في تاريخه إلى شيء من هذا التأثير المغربي في العمارة والعُمران بالسودان وتنبكتو على الخصوص، بالمفهوم الواسع لكلمة ( عُمران) الذي يشمل الحضارة والثقافة ، فقال: « فكانت تنبكت خرابَ بير[45]، ولم تأتها العمارةُ إلا من المغرب، لا في الديانات ولا في المعاملات. فأولُ الحال كانت مساكنَ الناس فيها زَريبات الأشواك وبيوت الأحشاش[46] ، ثم تحوَّلوا من هذا إلى بناء الحُيوط[47] أسواراً قصاراً جداً، بحيث مَن وقفَ في خارجها يرى ما في داخلها. ثم بنوا مسجد الجامع على حسب الإمكان، ثم مسجد سَنكُري كذلك، ومن وقف في بابه يومئذ يرى الحيطان والبُنيان، وما ثبتَت عمارتُه إلا في أواخر القرن التاسع، وما تكامل البناءُ في الالتصاق والالتئام إلا في أواسط القرن العاشر في مدة أسكيا داوود ..» ص: 21. ومما يُلحق بالعُمران بمعنى الحضارة والمدنية والثقافة أيضاً، مسألة اللباس التي لا شك في كون أهل السودان قد تأثّروا فيها بالنمَط المغربي باتخاذهم البرانس والقفاطين الملوَّنة والفَرَجيات والمَنصوريات والشاشيات الحمراء والعمائم البيضاء والقُمصان للرجال، والشرابيل للنساء، واتخاذ الشكارات (جمع: شكارة)[48] والحمائل، ومن الأفرشة اللحائف والزَّرابي، وكلها أشياء وردت ألفاظها ضمن المعجم المغربي السوداني الذي أشرتُ إليه سابقاً. ومما شاهدته ولمستُه من بقايا ذلك في المنطقة، أني حين زرتُ سُلطانَي صُوكوتو وكانو في نيجيريا عام 1996م، لاحظتُ أن حَرَسَهم السلطاني ( المخازنية) يشبه إلى حد كبير في نظامه وهيئته الحرَسَ السلطاني وخدَمَ القُصور الخاص بالمغرب، وألبستُه مكوَّنة أساساً من قفاطين ملوَّنة وفوقها فرَجيات بيضاء ناصعة، وعلى رؤوسهم الشَّواشي الحمراء، وفي أيديهم العِصِيُّ الطويلة، وفي أرجلهم البلاغي الصفراء والبيضاء. فأحسستُ وكأني في قصر سلطان مغربي لا فرق إلا في عظمة الهيئة وحسن النظام وأبَّهة المنظر، وجلال الموقف وجودة أنواع اللباس. وقد كانت ظاهرةُ العُري من الظواهر الشائعة في أفريقيا قبل دخول الإسلام، ومع انتشاره بدأت تختفي شيئاً فشيئاً، وإن كان ابنُ بطوطة قد لاحظ في القرن الثامن بعض بقاياها في مالي، لكنه لاحظ إلى جانبها ما كان السلطانُ وعِليةُ القوم والقُضاة يلبسونه من أثواب حريرية رفيعة وعمائم وطيلسانات وغيرها. ويقول آدمُ الفُندُكي صاحب كتاب : الآثار الكنوية ( مخطوط)، وهو يتحدث عن أيام السلطان محمد رَمفا حاكم كانُو الذي أقام عنده الفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلي أواخر القرن التاسع وقصَدَه مغاربةٌ آخرون أوائل التاسع: « وقد حضره كثيرٌ من العلماء والصلحاء وتصدَّق عليهم بمال جزيل، منهم الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني والشيخ عبد الرحمان بن زيتا.... وفي زمنه ظهرت الأقمصةُ والعمائمُ وبدأت اللغةُ الحوسيةُ تأخذ من العربية ... » إلى أن يقول : « وقد أنشأ قراءة المدح في زمنه ، فكان يحضر بنفسه يوم تمامه لأنه متواضعٌ جداً يعظِّم العلماءَ ... وهو الذي بدأ الشريعة حسبما دعاه العلماءُ الآتية إليه من الأقطار... ومن ذلك الزمان بدأ تفسير اللغة العربية بالحَوسية ...». وحسب سياق النص، فإن هذه المظاهر التي أصبحت تطبع الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية بألوانها وملامحها الجديدة، من نشر الشريعة، وتعليم العربية وشرح كتُبها بلغة الهوسا، وإحياء عيد المولد النبوي، والتزام اللباس الإسلامي الساتر للعورة وسائر أطراف الجسم كالقُمصان ووضع العمائم على الرؤوس ، كلها دخلت إلى تلك المنطقة عن طريق الوافدين من رجال الدين والتعليم والإصلاح من رجالات المغرب في الغالب وبعض المشارقة أيضاً. ويعتقد الدكتور ابن شريفة أن للأديب المهندس أبي إسحاق الساحلي المتقدِّم يداً فيما أصبح عليه أصحابُ مالي من ارتداء الثياب البيض الحِسان في العيدَين، وهي عادةٌ لاحظها وسجَّلها ابنُ بطوطة في رحلته. والاحتفالُ بعيد المولد النبوي على الطريقة المغربية بقراءة الأمداح وشفاء القاضي عياض على الخصوص، أصبح عادةً منتشرة في عهد دولة مالي أيضاً بتننبكتو وغيرها، وقد تحدث السعدي ومحمود كعت في تاريخهما مراراً عن هذه الظاهرة، وأرَّخا لعدد من الذين اشتهروا بفنِّ المديح من أهل السودان[49]. وذلك لونٌ آخر من ألوان الحضور المغربي وتأثيره الثقافي والديني. حول اللغة العربية: لقد تحثنا في كل ما سبق، عن دور المغاربة في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية بمختلف مظاهرها في منطقة السودان الغربي، ولكننا لم نتحدث عن دورهم في نشر اللغة العربية لغة القرآن الكريم، سوى ما قلناه عن إدخال تلك الطائفة من الألفاظ العامية المغربية إلى منطقة مالي بعد حملة المنصور السعدي، وانتشارها في المجتمع السوداني وتأثُّر بعض الكتّاب والمؤرخين بها، وما ذكرناه أخيراً من بدء انتشار العربية في مملكة كانو على عهد السلطان محمد رمفا في القرن التاسع الهجري. ولكن الحقيقة التي أصبحت معروفة لدى الجميع، هي أن انتشار اللغة العربية كان شيئاً مُلازِماً بالضرورة لانتشار الدين الإسلامي. فحيثما توجَّه الإسلامُ واستقرَّ، استقرَّت معه لغةُ القرآن التي هي أداةٌ ضرورية لفهم الوحي والتنزيل عند المسلمين، وضرورية أيضاً لأداء فريضة الصلاة، وحفظ السُّور وقراءة الأوراد، كما هي ضرورية لفهم الكتُب الدينية الأساسية من حديث وتفسير وقراءات وسيرة نبوية وغيرها من العلوم الإسلامية. ومن ثمَّ لم تكن العربيةُ عند المسلمين في يوم من الأيام، مجردَ لغة دينٍ وتعبُّد فقط، بل أصبحت لغةَ تعليم وتعلُّم، ولغةَ فهم وتفهُّم، ولغة ثقافة وحضارة وفنون. ومن ثمَّ تحوَّلت لتصبح جزءاً من العادات والتقاليد ، بل جزءاً من شخصية المسلم وكيانه وهويته. وإذن، نحن حين كنا نتحدث عن انتشار الإسلام، ودور المغاربة فيه، فإننا كنا نتحدث أيضاً عن انتشار لغة القرآن التي أصبحت لغةَ الدين والتعليم بمختلف أطواره، ولغة التأليف والشعر والأدب وسائر

الدولة الفاطمية

الفاطميون سلالة شيعية، تنتسب للفرقة الإسماعيلية من الشيعة، حكمت تونس، ومصر، والشام وعلى فترات في ليبيا والجزائر، والمغرب وأجزاء محدوده من غرب الجزيرة العربية وصقلية وكان لها نفوذ قوي في شمال السودان عبر إمارة الكنوز، بين عامي 909 و1171م. كان الحسين بن رستم بن حوشب من دعاة القرامطة في اليمن ومعه صاحبه أبو عبد الله الشيعي الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا، وكان له علم ودهاء ومكر. وأخبره ابن حوشب أن أرض كتامة في المغرب قد حرثها اثنان من أتباعه وقد ماتا الآن وليس لها غيرك. خرح أبو عبيد الله إلى مكة المكرمة واجتمع بالحجاج الذين قدموا من المغرب، فصحبهم إلى أرض كتامة عام 280 هـ، واجتمع عليه البربر هناك حتى عظم أمره. ولما بلغ أمره لإبراهيم الثاني بن أحمد بن الأغلب صاحب دولة الأغالبة، أرسل إلى عامله على مدينة “ميلة” يسأله عن أمره فصغره له وحقّره، فسكت عنه. ثم اشتد خطره فأرسل إليه إبراهيم الثاني الأغلبي ابنه الأحول وهزم أبو عبد الله الشيعي، فركن إلى الهدوء والعمل السري وبنى لنفسه داراً وأتاه البربر. ولما توفي إبراهيم الثاني عام 289 هـ وجاء ابنه عبد الله عام 290 هـ، تولى أمر الأغالبة زيادة الله الثالث وكان منصرفاً إلى اللهو، وهذا ما دعا إلى زيادة قوة أبي عبد الله. وكان زيادة الله قد استدعى الأحول وقتله خوفاً منه. عندها بدأ أبو عبد الله بالدعوة للمهدي وانتشرت فكرة المهدي حتى غدا عدد من وزراء الأغالبة من الشيعة ويرغبون في نجاح أبي عبد الله بدعوته. كان أبو عبد الله الشيعي قبل مجيئه إلى المغرب قد زار السّلميّة مقر الدعوة الإسماعيلية واجتمع هناك إلى الإمام المستور ـ على حد زعمهم ـ وهو المهدي. ومنها انطلق إلى المغرب بعد أن وعده بأن يمهد له الأرض هناك ويهيىء له الأمر بالظهور على الناس. وقد كانت السّلميّة، وهي إلى الشمال من مدينة حمص في بلاد الشام مقراً للدعوة الإسماعيلية. وكان هناك أيضاً عائلة ميمون القداح وهو رأس الدعوة الإسماعيلية. وقد انتشر أولاده في أصقاع الأرض يدعون بهذه الدعوة، بعد أن توفي أغلبهم وبقي منهم رجل يسمى الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداحي. وكان يدّعي أنه الوصي وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه. واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسليمة، فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن فتزوجها ولها ولد من الحداد، فرباه وأحسن موقعه منه وأوّبه، فصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة. وهناك من يقول إن الإمام الذي كان بالسلميّة وهو الحسين مات ولم يكن له ولد فعهد إلى هذا الغلام ابن الحداد اليهودي وهو «عبيد الله» المهدي فأطلعه على أسرار الدعوة من قول وفعل وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته وأنه الإمام الوصي وزوجة إبنة عمه أبي الشلفلغ، وقد جعل لنفسه نسباً هو عبيد الله المهدي بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. لما انتشرت دعوة أبي عبد الله الشيعي في المغرب، أرسل رجالاً من كتامة إلى الشام ليخبروا عبيد الله المهدي بما فتح الله عليه. إلا أن السلمية كانت مهددة من قبل الحسين بن مهرويه وجيشه الذي كان في صدام مع قوات الخليفة العباسي المعتضد، فهرب عبيد الله المهدي واختبأ بالرملة. وعند مرور جيش القرامطة من هناك، استدل الحسين بن مهرويه على مكانه والتقى به وأظهر له الطاعة عسى أن يستفيد منه. وأظهر عبيد الله له رضاءه عنه وموافقته على عمله خوفاً من أن يقتله أو يرشد عليه عامل الخليفة العباسي. وما إن سار الحسين بن مهرويه إلى دمشق حتى انطلق عبيد الله المهدي إلى مصر، ثم علم بما حل بأهله بالسلمية من قبل الجيش القرمطي وما نزل بآل عمر بن إسماعيل، فازداد قناعة بما يعمل من استنابه إلى الإسماعيليين وأكمل سيره إلى المغرب. والتقى عبيد الله المهدي هناك برجال كتامة واستطاع أن يوهمهم أنه الإمام فأسروا له ما عندهم واتجه معهم إلى مصر ومعه ابنه نزار أبو القاسم واتخذ عبيد الله صفة التاجر. وشاع الخبر أيام المكتفي بالله العباسي فأرسل إلى عامله بمصر يطلب إليه القبض على هذا التاجر. فقبض عليه لكنه أوهمه أنه غير ما يطلب وأظهر التدين أمامه فرق له وأطلقه، وأكمل طريقه إلى طرابلس الغرب وأرسل بعض من معه إلى القيروان فوجدوا أن الخبر قد سبقهم فألقي القبض عليهم فأنكروا. وسار عبيد الله المهدي إلى قسطلية ومنها إلى سجلماسة مقر دولة الخوارج الصفرية وكان ما يسير من مكان إلا ويطلبه العامل بعد أن يكون قد خرج منه. وأهدى عبيد الله المهدي إلى صاحب سجلماسة وهو المنتصر اليسع بن ميمون بن مدرار، فقرّبه المنتصر وأحبه حتى أتاه كتاب زيادة الله الثالث الأغلبي يعلمه أن ضيفه هو الذي يدعو له أبو عبد الله الشيعي في مناطقهم. عندئذ قبض عليه وحبسه. وكان ساعد أبي عبد الله الشيعي قد اشتد فقضى على دولة الأغالبة ودخل عاصمتهم «رقادة» وهرب منها رئيسها زيادة الله الثالث عام 296 هـ. ودخل أهل القيروان مدينة رقادة ونهبوها وبايعوا لأبي عبد الله الشيعي وساروا نحو سجلماسة بجيش كبير وولى على أفريقيا أخاه محمداً أبا العباس. وفي طريقه إلى سجلماسة قاعدة دولة الخوارج الصفرية، عرّج أبو عبد الله الشيعي وجيشه إلى «تاهرت» عاصمة دولة الخوارج الإباضية، وكانت قد وصلت إلى شفير الهاوية، فبعث إلى رئيسها واسمه يقظان بن أبي اليقظان وبنيه فجاؤوه فقتلهم جميعاً. وسار إلى تاهرت فقضى على جميع العائلة الرستمية واستباح المدينة ثم خرج منها وأكمل طريقه إلى سجلماسة ليحرر عبيد الله المهدي وابنه نزار أبا القاسم من السجن. أرسل أبو عبد الله الرسل إلى المنتصر اليسع بن مدرار يلاطفه ويبعد فكرة القتال خوفاً على عبيد الله. إلا أن اليسع بن مدرار قتل الرسل، فأعاد أبو عبد الله الشيعي الملاطفة بإرسال رسل جدد، فأعاد اليسع قتل الرسل. فما كان من أبي عبد الله إلا إن جدَّ السير لحصار سجلماسة فخرج إليه اليسع وجرى قتال ضار بين الطرفين لم يفرّق بينهما سوى حلول الظلام. وفي الصباح خرج أصحاب المدينة لاستقبال أبي عبد الله وأعلموه أن اليسع قد فرَّ بجماعته، فدخل المدينة وأخرج عبيد الله المهدي وابنه وأرسل في طلب اليسع فقبض عليه فسجن ثم قتل. ثم سار عبيد الله المهدي وجماعته جميعاً إلى رقادة عام 297 هـ بعد أن بويع بالخلافة فأصبح في العالم الإسلامي خليفتان: المقتدر بالله العباسي في بغداد وعبيد الله (الخليفة العبيدي) في رقادة. هنا توجد نقطة مهمة، وهي أن أبا عبد الله الشيعي عند ما دخل سجلماسة والتقى لأول مرة بعبيد الله المهدي على أنه الإمام، لم يرَ الرجل الذي سبق أن رآه خلال زيارته للسلمية وإنما رأى رجلاً آخر. فمنهم من يقول إنه رأى أحد أبناء البيت القداحي أو ربيبهم ابن الحداد اليهودي، ومنهم من يقول إن اليسع بن مدرار عندما علم أنه خاسر قتل عبيد الله المهدي وابنه قبل أن يهرب. وعندما دخل أبو عبد الله الشيعي لينقذ أسيره، وجد رجلاً يهودياً بالسجن فاضطر أن يدَّعي أنه المهدي ريثما تستقر الأوضاع، وقد خاف من قبيلة كتامة التي حملها على القتال من أجل المهدي. وعلى أي الأحوال، فإن الرجل الذي رآه أبو عبد الله الشيعي لم يكن هو من رآه من قبل، بل اضطر لاعطائه هذه الصفة ريثما يجد مخرجاً. وما إن أصبح عبيد الله المهدي خليفة في رقادة حتى وقع الخلاف بينه وبين أبي عبد الله الشيعي، وقام الخوارج الصفرية في سجلماسة بثورات ضد العبيديين بسبب أفعالهم الشنيعة وتصرفاتهم البعيدة عن الإسلام. واستغل عبيد الله المهدي هذا الظرف وقتل أبا عبد الله الشيعي وتفرغ لتثبيت حكمه الجديد. كان عبيد الله قد ترك قائده إبراهيم بن غالب المزائي عاملاً له على سجلماسة عندما غادرها إلى رقادة، ولم يلبث أن ثار الصفرية في العام نفسه وقتلوا إبراهيم بن غالب المزائي وجنوده. وولى الصفرية عليهم الفتح بن ميمون الملقب بـ”واسول”. سار عبيد الله المهدي عام 301 هـ يريد مصر ومعه أربعون ألف مقاتل ووقف عند النيل دون تقدمه شرقاً والوصول إلى الفسطاط فعاد إلى الاسكندرية وعاث فيها الفساد، فتبعه جيش الخليفة المقتدر بالله وانهزم العبيديون وانسحبوا إلى برقة. ثم استطاع القائم خليفة عبيد الله المهدي أن يسيطر على الصعيد عام 306 هـ. غير أن الخليفة المقتدر أرسل له مؤنس الخادم في جيش هزم العبيديين وأجبرهم على التراجع. وفي المغرب الأقصى كان موسى بن أبي العافية قد استولى على جميع دولة الأدارسة فخلع طاعة العبيديين ودعا للأمويين في الأندلس، فأرسل له عبيد الله المهدي جيشاً فهرب موسى من وجهه وترك مدينة فاس. إلا أن أمير الفاطميين على فاس قتل فرجع موسى بن أبي العافية إلى نفوذه ويدعو للخليفة الأندلسي، وذلك بعد وفاة المهدي عام 322هـ الذي خلفه ابنه نزار أبو القاسم القائم العبيدي الذي تم على عهده فتح مدينة جنوى عام 323 هـ وجزيرة سردينيا. كما استطاع القائم العبيدي إخماد ثورة الخوارج الإباضيين في طرابلس. ثم قامت ثورة كبيرة للإباضيين عام 325 هـ قادها أبو يزيد مخلد بن كيداد وانضمت إليه فرق الإباضية كما انضم إلى الثورة ضد العبيديين أهل السنة بعدما عانوا من تصرفات العبيديين غير الإسلامية. وقد استطاع أبو يزيد أن يهزم جيش العبيديين الذي أرسله القائم، ثم بدأ بدخول مدن الدولة العبيدية حتى دخل رقادة ثم القيروان عام 333 هـ واتجه نحو مركز الخلافة «المهدية» فخندق القائم حولها ليحميها. وكادت دولة العبيديين أن تزول لولا مساندة قبيلة كتامة وصنهاجة للعبيديين. فقد استطاعوا أن يصمدوا حتى استطاعوا أن يكسروا طوق الحصار عن المدينة وأن يهزموا جيش أبي يزيد. ثم مات أمير العبيديين القائم نزار بن عبيد الله المهدي عام 334 هـ وتولى الأمر من بعده ابنه المنصور إسماعيل بن طاهر. وكان ألعن من أبيه وأكثر زندقة منه. وقد قتل خلقاً من العلماء. ولما مات المنصور إسماعيل العبيدي عام 341 هـ ولي الأمر ابنه الذي تلقب بـ المعز لدين الله، المصدر : http://al-hakawati.la.utexas.edu/2011/12/28/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B7%D9%85%D9%8A%D8%A9/

الخميس، 2 مايو 2013

ـ ثورات الأندلس ضد المرابطين

ـ ثورات الأندلس ضد المرابطين: إن الأحداث و الثورات التي جرت في المغرب بقيادة ابن تومرت، ثم عبد المؤمن بن علي، كان لها انعكاساتها على بلاد الأندلس، وكانت حافزا مشجعا على قيام الثورات الأندلسية ضد المرابطين. وعلى الرغم من سيطرة المرابطين على كامل القواعد الأندلسية، إلا أن هذا لم يمنع من قيام الثورات ضدهم من غرب الأندلس إلى شرقه، وبالنسبة لأسباب هذه الثورات، فرغم تزامنها مع ثورة الموحدين في المغرب إلا أن عوامل قيامها تختلف عنها. فلقد كان الأندلسيون منذ بداية الحكم المرابطي لهم، يخفون رفضهم لهم، وما ثورة قرطبة سنة515ه (1121م) إلا تعبيرا عن ذلك الرفض، فالأندلسيون عُرف عنهم الاستقلال، والبذخ ،والترف، في الحياة في حين أن المرابطين عُرفوا بتشددهم الديني، وكثرة عطفهم على النصارى المعاهدين. فلقد أدت الثورات التي قامت في الأندلس في تهيئة الأجواء، وعاملا مساعدا للموحدين للقضاء على المرابطين في المغرب و في الأندلس، ومن أهم الثورات التي كان لها صدى واسع ثورة المريدين في الغرب، وثورة القضاة في الوسط، والثورة في الشرق. ـ 1ـ الثورة في الجنوب الغربي: في الوقت الذي بدأ الضعف يظهر في الدولة المرابطية على يد الموحدين، قامت جماعة من المتصوفة يطلق عليهم "المريدون"، بزعامة أبو القاسم أحمد بن الحسين بن قسي، وفي واقع الأمر أن هذا الرجل اتخذ الصوفية قناعا، فالحقيقة أنه كان يطمح إلى مطامع سياسية، ويبدو أن ابن قسي كان متأثرا إلى حد كبير بمهدي الموحدين فادعى هو الآخر الهداية وتسمى بالمهدي، فتتابع الناس إليه وكثر مريدوه وأنصار، والمعجبين به، حتى من سادة الـقوم وقادة الجند أمـثال أبو الوليد بن المنذر ومحمد سيدراء ابن وزير. لما شعر ابن قسي أن السلطات المرابطية فطنت إلى ما يرمي إليه توجه إلى جهة مرتلة، واختفى عند قوم يعرفون ببني السنة، وهناك أوعز إلى أحد المقربين إليه يدعى محمد بن يحي الشلطيشي( ابن القايلة)، بأن يسير في صحبة المريدين إلى قلعة مرتلة ليداهموها وفق خطة رسمها لهم في أوائل عام 539ه(1144م)، خاصة وأن هذا الإقليم النائي قد غلب عليه الضعف والوهن. تمكن ابن محمد بن يحي في صحبة سبعين رجلا من المريدين المتعصبين من الإستلاء على مارتلة وحصنها، وأعلن دعوة ابن قسي ولم ينجح المرابطون من استردادها فتركوها؛ فدخلها ابن قسي في جمع غفير من المريدين شعارهم التهليل والتكبير، واستقروا في قصرها، وتسمى بالإمام، وبعث إلى أعيان ولاية الغرب يدعوهم إلى الانضمام إلى ثورته لتحرير الأندلس من المرابطين، فاستجاب له كثير من أهل تلك النواحي، ثم سار ابن المنذر وقومه إلى حصن مرجيق شرق شلب فانتزعه من المرابطين فخاف المرابطون في باجة فغادروها إلى اشبيلية وعلى أثرهم سار إليـها ابن المنذر. تضاعفت جموع ابن قسي فتملكه الغرور وقرر السير إلى اشبيلية، فاستولى في طريقه على عدة حصون القصر، طلياطة ، من أعمال اشبيلية، وانضم جمع غفير إلى الجيش الثائر وكان عددهم يزداد يوما بعد يوم. في الوقت نفسه كان أمير المسلمين أبو زكريا ابن غانية قد غادر قرطبة متجها صوب اشبيلية بطائفة من الجند، وحينما وصلها وجد ابن المنذر يعبث في نواحيها، فبعث له بقوة مرابطية هزمته وقتلت عددا من المريدين وفرّ ابن المنذر إلى شلب وطارد بقية الفلول، وكان بإمكانه القضاء على ثورة المريدين لولا الأنباء التي وصلته من قرطبة بقيام ابن حمدين بالثورة في قرطبة، وقد دعى للإمام ابن قسي غير أن أهل قرطبة تراجعوا عنه، واستدعوا سيف الدولة ابن هود ليكون أميرا عليهم، ما جعل آمال ابن قسي تتحطم، ازداد سوء الحظ عندما نشب بينه وبين تابعه سيدار بن وزير "أمير باجة" فأرسل إلى المنذر أمير شلب ليحاربه، انتهى القتال بينهما لهزيمة المنذر ما جعل ابن وزير يزيد في طغيانه فانتزع مارتلة من ابن قسي الذي فر ناجيا بحياته، حيث عبر البحر واتصل بعبد المؤمن بن علي وغفر له لما صدر منه من ادعاء للإمامة والمهدية، وهكذا انتهت ثورة المريدين، التي مهدت الطريق للموحدين. ـ2 ـ الثورة في الوسط: (ثورة القضاة في قرطبة) نتيجة للضربات التي تلقاها المرابطون في المغرب، ثم في الغرب الأندلسي، بدأت الأحداث في التسارع، إذ أنه بمجرد خروج أمير المسلمين ابن غانبة من قرطبة لمحاربة المريدين في اشبيلية اشتعلت الثورة في قرطبة، فقد ثار العامة على الوالي المرابطي ابن عمر اللمتوني بقيادة القاضي ابن حمدين، فبايعه العامة والخاصة في المسجد الجامع في الخامس من شهر رمضان 539ه (1144م) فاستقر بالقصر وتسمى بأمير المسلمين وناصر الدين (وعند ابن الابار بأمير المسلمين المنصور بالله). وكان أهل قرطبة منقسمين على أنفسهم فمنهم المؤيد الحكم ابن غانية، ومنهم الموالي لابن حمدين، ومجموعة أخرى كانت تابعة للمريدين، ما جعل الأمور تتفاقم فلم يبق ابن حمدين في الحكم إلا أربعة عشر يوما ، حيث سعى فريق من القرطبيين بالاتصال بابن جعفر ابن هود الملقب بسيف الدولة، فدخلها في احتفال رائع بينما ابن حمدين فرّ نحو شمال غرب قرطبة وتحصن بحصن يقال له فرنجولش. لم يمر إلا اثني عشر يوما على حكم سيف الدولة لقرطبة حتى انقلب أهلها عليه، وهاجم مجموعة منهم قصر الإمارة وقتلوا وزيره ابن الشماخ، وعدد كبير من أصحابه، ففر سيف الدولة ناجيا بنفسه متجها نحو جيان، ولاشك أن لابن حمدين يد في اثارة الفتنة على سيف الدولة؛ كما أن المريدين كانوا يتحيّنون الفرصة للإنقظاظ على قرطبة، لكن قوات ابن حمدين كانت أسرع في الوصول إليها. استطاع ابن حمدين أن يحكم مرة أخرى قرطبة، وبمعاونة أصحابه بسط نفوذه على رندة، والأراك، شربيش، شدونة مُرسية. أما في غرناطة التي كانت لانزال أهم مدينة باقية تحت حكم المرابطين، فقد اشتعلت فيها نيران الثورة هي الأخرى، بتحريض من شيعة ابن حمدين مستغلين انشغال القوات المرابطية بقيادة ابن غائية إخماد الثورة في الغرب، وكانت غرناطة تشهد صراعات دموية بين الأحزاب المتناحرة عليها، ولم تستطع القوات المرابطية الباقية فيها أن تصمد في وجه المتشاجرين فتحصنت بالقصبة، فدخلها سيف الدولة لكنه لم يبق فيها إلا شهرا، بعد أن تيقن من عقم مهاجمة المرابطين في حصن القصبة؛ فتصالح أهل غرناطة مع المرابطين. أما في قرطبة فقد عاد إليها ابن غانبة بعد أن حكمها ابن حمدين إحدى عشر شهرا حيث التقى الطرفان في جمادى الثانية 540ه (1154م) جنوب غرب قرطبة انهزم فيها ابن حمدين وفرّ إلى بطليوس وكان عليها أحد زعماء المريدين. ثم لجأ ابن حمدين إلى اندوحر الواقع شرق قرطبة فقاتله ابن غانبة ما جعل الأول يلجأ إلى تلك الوسيلة الذميمة التي كان يقوم بها ملوك الطوائف وهي الاستعانة بالنصارى، حيث طلب المساعدة من القيصر ألفونسو ريدمونديس ملك قشتالة. توجه الملك القشتالي صحبة جيش كبير إلى ابن حمدين فخلّصه من حصار ابن غانية ودخلا قرطبة في 20 ذي الحجة 540ه (20 ماي 1145م)، اعتصم ابن غانية بقصبتها يدافع النصارى الذين عاثوا فسادا في شرق قرطبة؛ في هذا التوقيت وصلت إلى ألفونسو القشتالي جواز الموحدين إلى الأندلس، فوجد من مصلحته الإبقاء على ابن غانية في قرطبة ليكون حاجزا منيعا بينه وبين الموحدين، فبقي فيها نحو عام بينما ابن حمدين رجع إلى حصنه يراقب الوضع، ثم عبر البحر ليلاقي عبد المؤمن بن علي طالبا منه المساعدة، ثم عاد إلى مالقة إلى أن توفي بها ـ 3ـ الثورة في الشرق: لم تكن الجهة الـشرقية في الأندلـس بمنأى عـمّا يجري في بقية أنـحاء الأندلس من ثورات؛ فقد حذت المـدن الشـرقية حذو غرنـاطة، وقرطبة، واشبيلية، وكانـت على رأسها بلنسية ، ومرسية، حيث اندلعت الثورات ضد المرابطين، قادها مجموعة من القضاة. كان على رأس ولاية بلنسية عبد الله بن غائية وقاضيها مروان بن عبد العزي وكان بينهما نوع من الخلاف، وجفاء العلاقة بسبب تصادم المصالح بينهما؛ ونظرا للصعوبات والظروف التي كانت تمر بها الأندلس اتفقا على نبذ الخلافات، والعمل على تذكير الناس بفضل المرابطين في صد هجمات النصارى، غير أنه وصلت إلى عبد الله بن غائية شائعات، مفادها أن ابن عبد العزيز يحرض الناس ضد المرابطين فاضطر ابن غائية إلى أخذ عياله وأثقاله إلى شاطبة في 18 رمضان 539ه (اكتوبر1140م)، ونظرا لتوتر النفوس والمشاورات التي كانت قائمة، اتفق الناس على أحد اللمتونيين ليكون واليا على بلنسية. لم يرض ابن عبد العزيز على هذا الاختيار، وهو الطامح إلى السلطة فبدأ يشدد حملته على الوالي الجديد، فأراد الوالي القبض عليه لكنه لم ينجح، مما جعل الخوف يدبُّ في نفوس المرابطين ففرُّوا إلى شاطبة وبذلك ترأس ابن عبد العزيز بلنسية وتمت له البيعة في شوال 539ه (مارس1145م)، وجعل عبد الله بن عياض واليا على الثغر، وطلب المساعدة من قاضي مرسية ابن جعفر لمهاجمة عبد الله بن غائية، وقبل الوصول إليه اتجه هذا الأخير إلى ألمرية، ومنها إلى جزيرة ميورقة ليلحق بأبيه الوالي عليها، فاستولى ابن عبد العزيز على شاطبة و ما حولها، غير أنه لم يكن قَدْرَ المسؤولية فقد واجه تمرُّد الجند عليه بسبب عجزه عن جباية الأموال لدفع مرتباتهم؛ راسل الجند ابن عياض بمرسية و طلبوا منه تولي بلنسية، أما ابن عبد العزيز فقد نجح في الفرار وتعرض أنصاره للمطارد. أما في بلنسية فقد نشبت فيها الثورة هي الأخرى، وكان قد ترأسها أحد المريدين لأيام قليلة ثم اختار أهل مرسية الفقيه القاضي ابن جعفر محمد ابن أبي جعفر، الذي كان في البداية يدعو لابن حمدين، ولما حقق بعض الانتصارات على المرابطين دعى لنفسه وتسمى بالناصر لدين الل وشارك كما ذكرنا آنفا مع ابن عبد العزيز في معركة شاطبة طمعا فيها إلا أن ابن عبد العزيز استولى عليها؛ لقي ابن جعفر مصرعه في معركة في غرناطة أثناء تقديمه المساعدة لهم في ثورتهم وذلك في ربيع الأول 540ه(1145م تولى ابن الطاهر مرسية في جو مضطرب ومشحون مليء بالدسائس فلم يدم حكمه إلا أيام قليلة وأتى أهل مرسية ابن عياض (قائد جند الثغر) للقدوم إليهم ليترأسهم في جمادى الأولى 540ه(أكتوبر 1145م) ثم دعاه أهل بلنسية كما ذكرنا سابقا بعد فرار ابن عبد العزيز، فأصبح ابن عياض أمير على الشرق كله وكان يدعو إلى هود (سيف الدولة) إلى أن توفي هذا الأخير فدعى لنفسه حتى وفاته فخلفه محمد بن سعيد بن مردنيش الذي وقف في وجه الموحدين عند عبورهم الأندلس فلم يكن مثل الثائرين في الغرب والوسط الذين سارعوا إلى الموحدين بالعبور يلتمسون العون فاستمر يسيطر على الشرق الأندلسي حتى توفي سنة567ه (1171 من خلال كل ما سبق ان الاحداث المتسارعة، والثورات القائمة على الدولة المرابطية لم تقوى على ردع المنتفضين ضدها فمن الثورات في المغرب إلى الثورات في الأندلس ، جعلها تبقى عاجزة على الوقوف في وجهها. فبعد انهيار سلطانها في المغرب أمام الموحدين، تبعهم الموحدون في الأندلس، واستـولوا على المدن الأندلسـية التي كانت في أيديـهم، وفي سنة 543هـ( 1148م) وبعد استيلاء الموحدين على كثير من البلاد الأندلسية، وصلته البيعة من اهل الاندلس، والها كانت من اشبيلية يتقدمهم القاضي ابن العربي إلى بلاد المغرب، وبايعوا عبد المؤمن بن علي، ، وإن مبايعةهم لعبد المؤمن بن علي قد تُعطي إشارة إلى أن عبد المؤمن بن علي لم يكن يعتقد أو يدعو إلى أفكار ضالَّة كما في الدعوة إلى العصمة أو المهديَّة، أو غيرها مما كان يَدِينُ به محمد بن تومرت وبعضٌ من أتباعه. قَبِلَ عبد المؤمن بن علي الدعوة من القاضي ابن العربي، وجَهَّزَ جيوشه، وانطلق إلى بلاد الأندلس، وهناك بدأ يحارب القوَّات الصليبية، حتى ضمَّ معظم بلاد الأندلس الإسلامية، التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وكان ممن قاتله هناك بعض أنصار دولة المرابطين، إلا أنه قاتلهم وانتصر عليهم وذلك في سنة 545هـ (1150م).

الثلاثاء، 30 أبريل 2013

بين أبو عبد الله الشيعي و أبو مسلم الخرساني ـ دراسة مقارنة ـ

بين أبو عبد الله الشيعي و أبو مسلم الخرساني ـ دراسة مقارنة ـ يرى الكثير من الباحثين والدارسين للتاريخ، ان التاريخ يعيد نفسه احيانا ، اذ اننا نجد الكثير من الاحداث التاريخية تتكرر اما من حيث الاسباب او من حيث الظروف او من حيث النتائج ، ولنا في دراسة الشخصيتين ابو عبد الله الشيعي وابو مسلم الخرساني مثال لما نقول. أوجه التشابه بينهما 1ـ كل واحد منهما قدم جهدا كبيرا في انشاء دولة قوية وخلافة عظيمة فابو عبد الله أسس الدولة الفاطمية ،وأبو مسلم أسس الدولة العباسية ، فكلاهما قامت الخلافة على أكتافه. 2ـ كانت خاتمة ونهاية كل واحد منهما على يد الخليف الذي يحكم الدولة التي قامت على كتفه وبجهده فأبومسلم قُتل على يد ثاني خليفة عباسي هو أو جعفر المنصور 137ه ؛ وأما أبو عبد الله الشيعي فقد قُتل على يد الخليفة الفاطمي الأول عبيد الله المهدي268ه 3ـ تسبب مقتل كل واحد منهما في سخط أتباعه على الدولة، فلقد قامت حركة ثورية قادها سنباذ المجوسي تطالب بالثأر لأبا مسلم الخرساني ، وحركة أخرى تزعمها اسحق التركي يزعم ان أبا مسلم لم يمت وانه سيعود ويملأ الأرض عدلا.. ونفس الشيء نجده عند مقتل ابو عبد الله فلقد أبدى الكتاميون سخطهم وغضبهم على مقتله ،و زعم بعض منهم ان ابو عبد الله لم يمت وجعلو طفلا انه المهدي وانه يوحى اليه. أوجه الاختلاف بينهما 1ـ يختلفان في القيام بالمهام والنوايا.فابو مسلم كان على راس الفرس ضد العرب ، فضاهرا كان جهده موجه لاقامة الدولة العباسية ، لكن نيته كانت تهدف الى اقامة دولة فارسية بلباس اسلامي، فكان ينشر أفكارا مجوسية ويشجع الفرق المتطرفة. أما أبوعبد الله فكانت نيته خالصة للمهدي وللمذهب الاسماعلي ويعمل على تحقيق اهداف المذهب الاسماعيلي 2ـ اعتمد أبو مسلم على القوة العسكرية، وسفك الدماء، و فرض سياسته بالحرب، و الرعب يسانده في ذلك الناقمون على الدولة ،خاصة من الفرس ،والمنافقين، و الفرق المذهبية المعارضة للدولة الاموية. أما أبو عبد الله فقد اعتمد على دهائه، وسياسته المبنية على الحجة والاقتناع في نشر أفكاره، فهو رجل دعوة قبل ان يكون رجل حرب، فأقام دولته على الدعوة بطرق سلمية، بعيدا عن العنصرية فساوى بين البربر والعرب، مادامو يؤمنون بولائهم للامام العلوي. 3ـ يختلفان في أن الأمر كان أسهل بالنسبة لأبو مسلم الخرساني، فالدولة الاموية كانت تعاني من الضعف، وكانت تتآكلها الفرق، فظهوره كان في وقت كانت فيه الدولة الاموية على وشك السقوط، والطريق كانت ممهدة له من طرف مئات الدعاة . أما أبو عبد الله فكان جهده فرديا، منقوصا من المال والرجال، وكا في مكان غريب، وبدأ الدعوة من أول الطريق 4ـ أعلن ابو مسلم العصيان على الخليفة، أبو جعفر المنصور علنا وصراحة، عندما أراد أن يكون حاكما على الجهة الشرقية من الدولة العباسية. اما أبو عبد الله فكان مخلصا لعبيد الله ولم يعلن عصيانه او تمرده امامه . 5ـ كان أبو جعفر المنصور يدرك خطورة أبا مسلم وكان يكرهه، فنفذَ فيه القتل بنقسه، وفي مجلسه أمام الملأ اما المهدي عبيد الله فقد قرر قتل أبو عبد الله بعد تفاقم الوضع، وأصبح مضطرا الى ذلك فأرسل من ينفذ عملية الاغتيال، ثم صلى على جثانه وقال: ً رحمك الله ابا عبد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك. ً وفي الختام يمكن أن نخلص الى القول بأن الشخصيتين لعبتا دورا بارزا في التاريخ، وكان لكل منهما بصمته في تغير مجرى التاريخ في المنطقة التي ظهر فيها . وأهم ما يجلب انتباه الدارس والباحث في دراسة ألشخصيتين، هو كلاهما بذلا جهدا كبيرا في ارساء قواعد واسس الدولة، الا أنهما تمت تصفيتهما على أيدي صحبيهما وانهما لم يستفيدا من جهودهما. كروم عيسى

الاثنين، 29 أبريل 2013

ملخص بحث ًتاهرت حاضرة المغرب الأوسط: (ق2هـ ـ ق3هـ) ً

ملخص بحث ًتاهرت حاضرة المغرب الأوسط: (ق2هـ ـ ق3هـ) ً البعد الجغرافي لمدينة تاهرت تأسست مدينة تاهرت في سنة 161هـ على يد عبد الرحمن بن رستم إمام الاباضية في المغرب الأوسط، كما جاء على لسان ابن عذارى:ٌ ... فبنوا مسجدا من أربع بلاطات، واختط الناس مساكنهم وذلك في سنة 161هـ .وكانت في الزمان الخالي مدينة قديمة فأحدثها عبد الرحمن بن رستم.ً بعد أن بويع عبد الرحمن بن رستم بالإمامة، أراد أن يتخذ لنفسه عاصمة ليباشر منها مهامه فاستعان بأهل العلم والخبرة بالأرض ، وطاف الجميع بالبلاد يبحثون عن ارض تصلح أن تكون مدينة ، على أن تكون آمنة فكان اختيارهم على موقع تاهرت، وكان لهذا الاختيار عدة اعتبارات منها بعدها عن العباسيين، و تقع في منطقة داخلية في سفح جبل وبهذا تكون في منعة من أعدائها وتقع في منطقة محاطة بالقبائل الموالية للمذهب الاباضي، إلى جانب الموقع الأمين فإنها أيضا ذات مراعي واسعة ، وثروات زراعية متنوعة بسبب كثرة مصادر مياهها،وهو ما ساعدها في نمو اقتصادها وقال البكري: مدينة تاهرت: مدينة مسورة لها أربعة أبواب ،باب الصفا، وباب المنازل، وباب الأندلس ،وباب المطاحن ، وهي في سفح جبل يقال له جزول ولها قصبة مشرفة على السوق تسمى المعصومة الحياة الاقتصادية شهد المجتمع التاهرتي تطورا من الحياة البسيطة قبل مجيء الوفد الأول من البصرة إلى الأكثر رخاءً في المرة الثانية بعد ثلاث سنوات. إن هذا النمو الاقتصادي والاجتماعي يكاد يكون أسطورياً، فقد تم في ظرف قصير، فمن قرية صغيرة تقبل المساعدات الخارجية إلى مدينة غنية الموارد المالية التي ساعدت على نمو المجتمع التاهرتي: ـ الإعانات الخارجية التي أتت من المشرق ـ أما المورد الثاني فهو التجارة فقد ساعد موقع تاهرت من السيطرة على الطرق التجارية التي تؤدي إلى مختلف الاتجاهات، فأصبحت مركزاً هاماً لمدة قرن ونصف تقريباً ـ أما المورد الثالث فهو الصدقات أي الزكاة الحياة الاجتماعية انعكس التطور الاقتصادي على البنية الاجتماعية لتاهرت، فحدث تغير كبير، كانت أولى نتائجه الهجرة؛ فقد هاجرت إلى مدينة تاهرت عدة وفود من جميع البقاع والأمصار، وظهرت طبقة من الأثرياء أحاطت البساتينَ بالقصور يذكر ابن الصغير المالكي في كتابه مجموعة من القبائل والأجناس التي عاشت في تاهرت فنجد البربر الطبقة العظمى من مجتمع تاهرت وعلى رأس المستقرين قبيلة "نفوسة. والعرب خاصة الذين هربو من جور حكام القيروان ووجدو نوعا من العدالة في تاهرت أما العجم فقد ورد ذكرها مرات عديدة في المصادر لعله المقصود بها الفرس فقد جاؤوا لما سمعوا بحكم الرستميين لتاهرت لأنهم من نفس الجنس أما اليهود فلا دليل في المصادر الاباضية على وجودهم في المجتمع التاهرتي لكن محمود إسماعيل يؤكد وجودهم تعتبر الإباضية أكثر المذاهب الخارجية اعتدالاً وتسامحاً، وهذا ما جعل تاهرت تزخر بالمذاهب الإسلامية المختلفة وتتعايش فيما بينها في سلام وأمن ، وتذكر المصادر المناظرات المذهبية والكلامية التي جرت بين المعتزلة وغيرهم من المذاهب ، خاصة مع الإباضية الحياة العلمية إهتم المجتمع التاهرتي بالجانب العلمي والفكري اهتماما كبيرا ، إذ أن من الشروط الأساسية في إمام الدولة حتى يتم انتخابه ، أن يكون عالما بأمور الشريعة والسياسة والحكم . وهذا دليل على هذا الاهتمام كما يظهر هذا الاهتمام بإنشاء المؤسسات التعليمية كالكتاب ،و إقامة حلق العلم في المساجد سواء في التفسير أو الحديث أو الفقه أو اللغة وغيرها من العلوم النقلية ، حتى أن أئمة الدولة الرستمية كانوا يساهمون في التعليم بأنفسهم وكذلك اهتمت الدولة الرستمية بإنشاء المكتبات العلمية الزاخرة بمختلف فنون العلم والآثار ، ومن مكتباتها المشهورة مكتبة " المعصومة " التي كانت تحوي آلاف المجلدات والكتب ، أوصلها بعض الباحثين إلى ثلاثمائة ألف مجلد خاتمة لقد كان تأسيس تاهرت نواة لقيام الدولة الأباضية التي حكم بها الخوارج الأباضيون، والتف حولها سكان المنطقة للتخلص من جور الدول الكبرى، وفد إليها المضطهدون من كل الأمصار وتعايشوا جميعا في كنف الحرية، حرية العقيدة والفكر والممارسة. لكن الدولة لم تعتن بالجيش، إذ كان بسيطا يتكون من المتطوعين عند الضرورة، الأمر الذي جعل المدينة لقمة سائغة في أيدي الشيعة ، إذ أنها لم تصمد أمام قوات عبد الله الشيعي الداعي للمذهب الاسماعيلي ، حيث انه دخلها وخربها وطمس معالم حضارتها وبالخصوص مكتبتها الغنية بشتى العلوم العقلية والنقلية الطالب: كروم عيسى