الأربعاء، 15 مايو 2013

دور المغرب في نشر الإسلام ولغة القرآن بالغرب الإفريقي

دور المغرب في نشر الإسلام ولغة القرآن بالغرب الإفريقي أ. د. عبد العلي الودغيري حين يريد شخصٌ ما أن يتحدث عن انتشار الإسلام وحضارته وثقافته في المنطقة التي تُعرف اليوم بغرب أفريقيا أو منطقة جنوب الصحراء، وتُعرف قديماً بالسُّودان الغربي، سوف لن يجد أكثرَ من ثلاثة عناصر بشرية هي التي كانت وراء هذا الانتشار الواسع، وهي: العنصُر المشرقي، والعنصُر المغربي، والعنصُر الإفريقي المحلّي. فأما العنصر المشرقي فكان له الفضلُ في إيصال الرسالة المحمدية وحَملها من مَبعثها في المشرق ووضعها في يد الذين استَلَمُوها من بعده من أهل المغرب في الشمال الإفريقي. فقد كان دورُه التبليغَ وقد بَلَّغَ. ثم بعد ذلك حين رَسَخَت أقدامُ هذا الدين في الرُّبوع الإفريقية ، لم تنقطع الصلةُ بالمشرق، بل ظلَّت قائمةً على الدوام بفضل ركن الحَجِّ الذي فرضَه اللهُ على المسلمين كافةً لكي يحافظوا على هذه الصلة الدائمة بينهم ولو مرةً كلَّ عام ، وبفضل الرِّحلات المتبادَلَة ثقافياً وتجارياً، والكُتُب العلمية والدينية التي انتشرت في أفريقيا، وأخيراً بفضل بعض العلماء المشارقة الذين كان لهم إشعاعٌ على المنطقة واتصال مستمرٌّ برجالاتها، ومن أشهرهم وأشدهم تأثيرا الإمام جلال الدين السيوطي[1]. وقد أقامَ عددٌ منهم ـ على قلَّتهم ـ في أرض السودان ولو لفترة قصيرة، واقتصر آخرون على ما كتَبوه وألَّفوه ، فقرأه الأفارقةُ وتمثَّلوه وتأثَّروا بما فيه. والمقامُ لا يسمح هنا بالتفصيل في الأثَر المشرقي في نشر الثقافة الإسلامية والعربية بالمنطقة. أما العنصُر الإفريقي المحلّي، فهو المتمثِّلُ في أولئك الأفارقة أنفسهم الذين أسلَموا وحسُن إسلامُهم، واعتنقُوا هذا الدين عن حُبٍّ وإقبالٍ وطواعية، لما وجدوا فيه من فضل وعدلٍ ومُساواةٍ وتكريمٍ لإنسانيتهم ومؤاخاةٍ لهم مع غيرهم من أبناء الشعوب الإسلامية الأخرى على اختلاف أجناسهم لا فضل لبعضهم على بعض، ولا للَونٍ على لونٍ . فقاموا من جانبهم أيضاً بإتمام تبليغه لِمَن حولَهم ولِمَن بعدَهم ووراءهم بكل وسائل التبليغ المُمكنة، بالدعوة والموعظة الحسنَة أحياناً، وبالجهاد ـ إن اقتضى الأمرُ ذلك ـ أحياناً أخرى. وما كان لهذا الدين الحنيف أن يستمرَّ ويصمُدَ ، بل ويتوطَّد ويتجَذَّر طيلةَ القرون الماضية، لولا أن الأفارقة أنفسَهم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم، قد أقبلوا عليه بمحض إرادتهم ورغبتهم، وأحاطوه بحبِّهم ونَصَروه بسيوفهم ، وأسكَنُوه في أعماق قلوبهم وجوارحهم. أما العنصر المغربي فكان له دوران أساسيان: أولهما: أنه توسَّطَ بين هذين الطَّرَفين المشرقيِّ والإفريقي، بحمل المِشعل من يد هؤلاء ووضعه بكل أمانة في يد أولئك، وثانيهما: أنه بقيَ على الدوام في حماية هذا الدين ورعاية حامليه الجُدُد وإسنادهم ومُؤازرتهم وتأمين ظهورهم. إن الإسلامُ لم يكن ليستقرَّ في المنطقة التي نتحدَّث عنها إلا بواسطة المغاربة من أبناء الشمال الإفريقي عموماً والمغرب الأقصى على وجه الخصوص. فكما حمَلَ طارقُ بنُ زياد مِشعلَ الإسلام من يد والي المشرق على المغرب موسى بن نُصير، فوصَلَ به إلى العُدوة الأخرى من بَرِّ أوروبا الغربية، كذلك قام بحمل المِشعل من يد عُقبة بن نافع الفهري، ومَن جاء بعدَه من الوُلاة العرب، مجاهدون مغاربةٌ أبطالٌ انحدروا جنوباً إلى أدغال الصحراء ثم إلى ما وراءها ـ إلى أن وصلوا أرضَ السودان الغربيِّ عبرَ البَوّابات والمداخل المعروفة ( مراكش/ أُودَغست / ولاّتَة ـ سِجلماسة/ تَغازّة ـ الأغواط/ توات ـ طرابُلُس/ غُذامس... وغيرها من المَحَطّات والمعابر الصحراوية القديمة)[2]. وهنا يبرُزُ دورُ عبد الله بن ياسين الجَزُولي ذلك الفقيه المجاهد الذي أمضى سبعَ سنواتٍ يطلب العلمَ في الأندلس، وسنواتٍ أخرى في المغرب، ورابَطَ بجانب شيخه الفقيه الزاهد الوليِّ الصالح وجّاج بن زَلُّو اللَّمطي ( ت 445هـ) الذي أقام فترةً بالقيروان يتلقَّى العلمَ والفقه المالكي على يد شيخ المذهب في عصره أبي عمران الفاسي، ثم عاد ليخُطَّ طريقَه في مجال نشر الدعوة والإسلام السُّني الصحيح ومحاربة البِدَع والمُبتَدعة والخوارج وغيرهم، ويؤسس رباطه الذي أطلق عليه اسمَ ( دار المرابطين). لقد انطلق ابنُ ياسين ـ كما هو معلوم ـ من دار المرابطين هذه متجهاً نحو أقاصي الصحراء رفقةَ يحيى بن إبراهيم الجُدالي أميرِ قبيلة صنهاجة ذاتِ الفروع الثلاثة الكبرى المعروفة ( جُدالة ولمتونة ومَسُّوفة)، وقد كُلِّفَ بهذا الأمرـ بعد اختيارٍ دقيقٍ وصائب ـ من شيخه وأستاذه في الدين والمذهب والورع والجهاد وجاّج اللمطي الذي إنما فعلَ ذلك امتثالاً لتوصية الشيخ الكبير أبي عمران الفاسي نزيلِ القيروان، بأن يصطفي من قِبَله رجلاً يرتضيه لتولِّي مهمة تعليم قبائل الصحراء الممتدة إلى أرض السودان أُمورَ دينهم الذي اعتنقوه من قبلُ، وتعميق فهمهم له وإصلاح عقائدهم على مذهب أهل السُّنة والجماعة. ولكن الرجل لم يقف عند مهمته الدعوية في الصحراء، وإنما تطلَّع لما هو أعظمُ وأخطرُ، فكان المؤسِّسَ الحقيقي للدولة المرابطية. ثم استُشهِدَ ابنُ ياسين رحمه الله في إحدى معاركه مع البرغواطيين بالمغرب الأقصى( 451هـ) ، ليأخذ زمامَ صنهاجة أبو بكر بن عمر اللمتوني الذي عاد إلى الصحراء رفقةَ فقيه مغربي آخر هو أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي[3]، فأكمل الدور الذي بدأه ابنُ ياسين في الصحراء، وعُهِدَ إلى يوسف بن تاشفين إتمامُ مهمة تمهيد الشمال الإفريقي انطلاقاً من المغرب الأقصى. وبذلك أصبح المرابطون يتحكَّمون في إمبراطورية شاسعة مُوحَّدة تمتد أُفُقياً من الحدود المصرية إلى البحر المحيط، وعَمُودياً من بلاد الأندلس إلى حدود النيجر ونهر السنغال جنوباً. ولقد تحدَّث كثيرٌ من المؤرخين عن دور المرابطين والحاملين لواءَ دعوتهم من فقهاء ومجاهدين في نشر الإسلام بالصحراء الكبرى وما بعدها ووراءها من بلاد السودان، وقرَّر المحقِّقون منهم أن وجود الإسلام بهذه المناطق كان سابقاً لقيام أمر المُلثَّمين، وهناك شواهدُ وأدلة تاريخية كثيرةٌ على ذلك[4]، وإنما عمل هؤلاء في المقام الأول، على تصحيح فهم هذا الدين وتنقية العقائد من الشوائب والانحرافات والبِدَع والخرافات بحكم كونهم من أهل السُّنة وأنصار المالكية. فدورُهم كان إصلاحياً بالأساس، وهو الدورُ الذي قاموا به وركَّزوا عليه في الشمال من بلاد المغرب الكبير كله شرقاً وغرباً حين حاربوا البرغواطيّين وغيرهم من أصحاب النِّحَل والانحراف. لكن هذا لا يمنع من القول إنهم عملوا أيضاً، بجانب حركتهم الإصلاحية، على إتمام رسالة التبليغ والدعوة في المناطق الأخرى التي لم يكن الإسلامُ قد وصلَها من قبل. ثم إن تثبيت المرابطين لقواعدهم ورباطاتهم في أعماق الصحراء ابتداءً من أُودغست، التي استولوا عليها سنة 422هـ، وغيرها من المَحطّات والمُدن والرِّباطات التي استقرُّوا بها، قد أعطى لوجود الإسلام ـ بلا شك ـ دفعةً جديدة وقويَّة كانت بمثابة موجة عالية حَملَته إلى نقط بعيدة فيما وراء الصحراء التي كانوا سادتَهَا بلا مُنازِع، فانطلقَ داخلَ الأرض السودانية انطلاقَ السُّيول من قِمَم الجبال. وليس من قبيل الصُّدَف أن تشهد فترةُ القرن الخامس وبدايةِ السادس الهجري ـ وهو عصر المرابطين في الصحراء ـ ظهورَ ممالك سُودانية ذات طابع إسلامي وسيطرة مرابطية صحراوية جزئية أو كلية، وهي: مملكة تَكرُور على نهر السنغال التي أسلم مَلِكُها في هذا القرن واندمجت في دولة مالي الإسلامية بعد ذلك. وكانت قبائلُ أمازيغية من لَمطةَ قد تدفَّقت عليها منذ القرن السابع الميلادي ( الأول الهجري)[5]، ثم مملكة غانة التي أصبحت تحت سيطرة المرابطين منذ سنة 460هـ واندمجت أيضاً في دولة مالي بعد ذلك. وأخيراً دولة تُنبُكتُ التي أجمعت المصادر التاريخية على أن الذين أسسوها هم قبائل من الطوارق الملثَّمين قريباً من نهر النيجر[6]. ولم يأت القرنُ السادس الهجري حتى كانت دولةُ كانم وبُرنُو قد قامت حول بُحيرة تشاد على يد أسرة من الملثَّمين الطوارق، وقد زارها ابنُ بطوطة ووجد أهلَها مسلمين ومَلكُهم يسمى إدريس[7]. ومن ممالك الملثَّمين الُمُسلِمة التي زارها ابنُ بطوطة أيضاً في القرن الثامن مملكة تَكَدَّة وكان ملكُها إذ ذاك يسمى إزار، وقاضيها مغربياً يسمى إسحاق الجاناتي، وشيخُ المغاربة فيها سعيد بن علي الجزولي.. وذكر ابنُ فضل الله العُمري في المسالك ثلاث ممالك بربرية إسلامية في تلك المناطق المُحاذية للسودان أصبحت أراضيها فيما بعد جزءاً منه، وهي سلطنة آهير[8] وسلطنة نموسة وسلطنة تادَمَكَّة. ثم تتابعت الممالك الإسلامية الكبرى بعد ذلك كمملكة مالي ومملكة سُنغاي ودولة آل فودي. قلت قبل قليل: إن المغاربة قاموا بدور الوسيط الذي أوصل الرسالة إلى أهل السودان الغربي، كما قاموا بدور آخر وهو رعايةُ الإسلام في تلك الديار بحكم القرب والجِوار وحماية ظهره والدفاع عن وجوده والعمل على إرساخ جذوره وتثبيت دعائمه وتصحيح مسيرته باستمرار. ولذلك فإن الحضور المغربي وتأثيره القوي كانا متميِّزَينِ عبر التاريخ عن باقي المُؤثِّرات الأخرى. فأين تجلىَّ هذا الحضور والتأثير؟ أول مظهر من مظاهر الحضور الدائم والتأثير المغربي القوي يتجلى في الطابع المذهبي للإسلام الذي انتشر في أفريقيا الغربية وظل قائماً على حاله إلى يوم الناس هذا. فالإسلامُ في هذه المنطقة إسلامٌ سُنِّيٌّ على مذهب الإمام مالك[9] رضي الله عنه المشهور بوسَطيَّته واعتداله، وعلى العقيدة التوحيدية السَّلفية إلى عصر المرابطين و العقيدة الأشعرية ابتداءً من عصر الموحِّدين. وكان للمرابطين وفقهائه ودُعاته من المغاربة دورٌ أساسيٌّ في تثبيت هذا المذهب السُّنّي وعقيدة التوحيد الصافية في نفوس الأفارقة[10]. والعلماءُ والفقهاءُ الذي توافدوا على المنطقة من الشمال الإفريقي بعد ذلك وعلى مرّ العصور، كانوا جميعاً من أصحاب هذا المذهب وهذه العقيدة، وحتى الفرقُ والمذاهبُ الصوفية التي انتشرت هنالك كانت فرقاً سُنية مُعتدلة كالسَّنوسية والزرُّوقية والقادرية والتيجانية. ومناهجُ التعليم التي وُضِعت وطُبِّقت عبر المراحل التاريخية المختلفة كانت تقوم على أساس كتُب الفقه المالكي بأًصوله وفروعه وشروحه وحواشيه. وكلُّ العلماء الذين برَّزوا واشتهروا في السودان الغربي كانوا من فقهاء المالكية وعلمائها بلا استثناء. لذلك نجد أسماءهم تملأ كتبَ طبقات المالكية كالديباج لابن فرحون، ونيل الابتهاج وكفاية المحتاح للتُّنبكتي ، وشجرة النور لابن مَخلوف ، وغيرها. أما المظهر الثاني من مظاهر الحضور والتأثير، فيتجلى في مناهج التعليم ومصادره ومراجعه وأسانيده. فهي في أغلبها مغربية روحاً وجَسَداً. والمنهجُ المغربي في التعليم يبرزُ منذ الدخول إلى الكُتّاب والبدء في حفظ القرآن برواية ورش، إلى تعلُّم الكتابة بالخط المغربي المعروف والمتميِّز بشكله ورسمه ونُقَطه وترتيب حروفه[11]، إلى حفظ المتون الفقهية واللغوية والأدبية، ثم مرحلة التبحُّر في مختلف العلوم باستخدام المصادر والمراجع المغربية والأندلسية في غالب الأحيان، باستثناء بعض المصادر السُنية المشرقية ( المالكية وغيرها) كان المغاربةُ أنفُسُهم يعتمدونها ويرجعون إليها كمختصر خليل وشروحه وكتب السيوطي وابن حجر ... وغيرها. وقد أورد المرحوم الأستاذ إبراهيم الكتاني في مقدمة تحقيق كتاب فتح الشكور للولاتي، قائمةً طويلة بأسماء الكتب المغربية التي كانت تُدرس في مراكز التعليم بالسودان الغربي، كالشفا لعياض، ودلائل الخيرات للجزولي، ومقدمة ابن آجرُّوم في النحو، وشرح المكودي على الألفية، والمرشد المُعين لابن عاشر، ولامية الزَّقاق، والدُّرَر اللوامع لابن بَرِّي التازي، وإضاءة الدُّجُنَّة للمقَّري، وشرح الحكَم العطائية للشيخ زروق الفاسي، والمدخل لابن الحاج، والشروح المغربية للمدوَّنة وغيرها من كتب الفقه المالكي. هذا فضلاً عما ورد في حديث طويل له عن الأسانيد المغربية في الروايات والإجازات التُّكرورية السودانية. وقد سبق لي أن بيَّنتُ في بحث آخر[12]، عُمق التأثير المغربي في مؤلفات الشيخ عثمان بن فودي وأخيه عبد الله وابنه محمد بلُّو، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أكبر العلماء وأكثرهم تأليفاً في عصرهم، ممن يمكن اعتبارُهم بمثابة نماذج لسواهم من علماء السودان الذين نجد في فهارسهم وأسانيد شيوخهم لائحةً بأسماء الشيوخ المغاربة والأسانيد المُتَّصِلة بهم في الرواية والأخذ والإجازة والإسناد، وفيها أيضاً صورةٌ واضحة عن هذا التأثير. والجانب الثالثُ يتجلَّى في الطُّرُق الصوفية التي انتشرت بأفريقيا الغربية. فكلُّها طرُقٌ مغربية كالسنوسية والزرّوقية والشاذلية والناصرية الدَّرعية والتيجانية. أما القادرية فهي وإن كان منشأُها مشرقيا ( نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني)[13]، إلا أنها تَكيَّفت واصطبغت بالصبغة المغربية منذ أن دخلت إلى المغرب في القرن السادس الهجري ( الثاني عشر الميلادي) ـ فيما قيل ـ على يد الشيخ أبي مدين شُعيب الغَوث دفين الجزائر[14] ، وأخذت بعضُ فروعها أسماء مغربية. وكان الذين نشروها في السودان الغربي هم الشيوخُ الكُنتيّون الذين أقامت أُسرتُهم فترة بمنطقة توات، ثم تعمَّقوا في قلب الصحراء ومناطق من السودان الغربي.، ومنهم أحمد البَكاء وابنُه الشيخ عمر الذي أصبح ـ كما يقول بول مارتي ـ :« الرئيس الأعلى للطريقة »[15]وأطلق اسم أبيه على فرع القادرية الذي هو مؤسِّسُه، ويقصد الطريقة البكائية التي نشأت في زاويتهم بتوات. وفي عهد الشيخ المختار بن أحمد الكنتي المعروف بالكُنتي الكبير( ت1811هـ) أُحدِثَ في أزواد فرعٌ آخر جديد للطريقة القادرية سُمِّي بالطريقة المُختارية نسبة إلى الشيخ المختار،.على أن الشيخ عمر نفسه أخذ الطريقة عن الداعية الكبير أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي الذي اعتبره بول مارتي أيضاً « الرئيس الأعلى للطريقة القادرية في الغرب الإفريقي» كله. وكان الشيخ عثمان بن فودي نفسه قادريَّ الطريقة ، وقد أوصل سلسلةَ سنده في هذه الطريقة بالشيخ المغيلي. ولا شكَّ أن تأثير الطرق الصوفية المغربية في هذه المنطقة تأثير قويٌّ جداً ما يزال فاعلاً وحاضراً في كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية على اختلافها، ولا شكَّ أيضاً في أنها قامت بأدوار وأدَّت خدماتٍ جليلةً بإسهامها الكبير في نشر الدين والثقافة والتعليم العربيَّين الإسلاميَّين، من جهة، وبصمود رجالها في وجه الغزو الاستعماري والثقافي في العصر الحديث من جهة أخرى. أما المظهر الرابع فيتجلى في دور علماء المغرب وفقهائه ودُعاته، سواءٌ منهم الذين كان تأثيرُهم مباشراً بحضورهم في أرض السودان أو الحضورِ إليهم في أرض المغرب، أم غيرَ مُباشِر بواسطة كتُبهم ومؤلفاتهم التي انتشرت واشتهرت في أفريقيا الغربية، وأصبحت تمثِّل المصادرَ والمراجع المعوَّل عليها والمتونَ التي لا بد من حفظها واستظهارها والاستشهاد بأقوالها ونصوصها. فأما الوافدون من فقهاء المغرب وعلمائه ودُعاته، فكانت رحلتُهم إلى السودان الغربي مستمرّةً طيلة مراحل التاريخ الإسلامي دون انقطاع. ونحن وإن كنا لا نجد لائحةً بأسمائهم في القرون الأربعة الأولى للهجرة، فإن الدليل على وجودهم قائمٌ، وحضورهم ثابتٌ لا شكَّ فيه. فالإسلامُ لم يكن ليصل إلى تلك البقاع، ويستقرَّ في تلك الأصقاع قبل المرابطين، دون دعاة وفقهاء وأئمة كان همُّهم في نشر رسالة التوحيد وثقافة الإسلام ولغة القرآن وليس في تخليد أسمائهم. وابتداء من العصر المرابطي، بدأنا نعثر على أسماء فئةٍ من هؤلاء أمثال عبد الله بن ياسين الجزولي، وأبي بكر الحضرمي المرادي، وأبي عبد الله بن وانسول السجلماسي أحد مصادر ابن خلدون المعتمدة في أخبار مالي[16]، والفقيه محمد بن محمد بن علي اللمتوني صاحب المسائل الفقهية التي بعث بها إلى السيوطي مستفسراً سنة 891هـ[17]، وأبو عثمان سعيد الدكالي الذي أقام بمملكة مالي مدة طويلة ( خمسة وثلاثين عاماً) وكان من أهم مصادر ابن فضل الله العُمري الشفوية عن أحوال السودان[18]، وهناك أسماء أخرى لفقهاء وقضاة وغيرهم ذكرهم ابنُ بطوطة في رحلته للسودان (القرن الثامن الهجري) مثل الفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان بمدينة كوكو[19]، ومحمد بن الفقيه الجزولي بعاصمة مالي[20]، وصهره الفقيه المقرئ عبد الواحد،[21]، وعلي الزُّودي المراكشي من الطلبة[22] ، وأبي إبراهيم إسحاق الجاناتي قاضي تَكَدَّة[23]، والفقيه محمد بن عبد الله من أهل تكدَّة أيضاً[24]، فضلاً عن جماعة آخرين ممن لم يذكر صفتهم[25]. وكان لعلماء توات ـ وخاصة أسرة الكُنتيّين ـ حظوةٌ خاصة عند ملوك بُرنو الإسلامية ويعتبرونهم من المرابطين وينظرون إليهم نظرة إكبار وتعظيم، ويسعون لاستقدامهم إليهم وإغرائهم بالإقامة بينهم. وقد احتفظت لنا بعضُ المصادر بنصَّ رسالة وجَّهها أحدُ سلاطين برنو سنة 843هـ إلى هؤلاء المرابطين في منطقة توات يقول فيها :« فقد عجبنا من أمركم لماذا تركتم عادة كبرائكم؟ لماذا قصَّرتم عن النزول وإرسال البعثات إلى بلادنا منذ عهدكم مع كبيرنا .... فأنتم لم تعودوا إلينا منذ ذلك الحين ... فعليكم أن تأتوا إذن كعادتكم ... لأن البلاد بلادكم كما كانت بلاد أسلافكم ..»[26]. ومن أشهر مشاهير العلماء الذين قدموا من توات، فزاروا المنطقة وأقاموا فيها واحتفظت لنا كتبُ التاريخ بأسمائهم: نذكر في مقدمتهم أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي (909هـ) صاحب التصانيف والرسائل والأجوبة المعروفة. كانت له حظوةٌ كبيرة عند ملوك كانُو وكاتشينا ببلاد الهوسا، وملك السُنغاي أسكيا الحاج. كما كانت له اليدُ الطُّولى في رسم خطوط السياسة الشرعية لهذه الإمارات وتعيين القضاة وإقامة الحُدود الشرعية، وإصلاح أمور المجتمع الدينية والدنيوية والتعليمية والثقافية، وتكوين الأئمة والمُرشدين والفقهاء والدعاة، وتقديم المشورة والنًّصح للحكّام وذوي الأمر الذين كانوا ينزلون عند رأيه وأحكامه ومشورته ولا يُمضون شيئاً ذا بال إلا بموافقته. وقد ترك المغيلي مجموعة فتاوى ورسائل فيها تحديدٌ وتوجيه لمعالم الطريق التي ينبغي أن يسلكها الحُكام في سائر أمورهم ، فصار له شأن كبيرٌ عندهم، واستمرَّ تأثيره أجيالاً من بعده حتى وجدنا خلفاء الدولة العُثمانية الفوديوية بعد حوالي ثلاثة قرون يعتبرون كتبَه ورسائله وفتاواه المِشكاةَ التي بها يستنيرون، والمَعلَمَ الذي به يهتدون، فلا يفترون عن ذكره والاحتجاج بأقواله وأرائه في كل ما تركوه من أعمال ومصنَّفات[27]. ويندر جداً أن تجد كتاباً من كتب تاريخ السودان الغربي حديثاً أو قديما، خالياً من ذكر المغيلي ومآثره. ولم يكن المغيلي وحده صاحب الشأن والتأثير، فقد جاء آخرون أيضاً وكان لهم دورٌ كبير في الحياة العلمية والثقافية بكانو وكانشينا، منهم الفقيه البلبالي ( مخلوف بن علي بن صالح) ( ت بعد 949هـ)، وعبد الرحمان سُقَّين (ت956هـ ) تلميذ ابن غازي وغيرهما. وما هؤلاء الذين ذكرناهم سوى عيِّنة ممن احتفظ التاريخُ بأسمائهم، من العلماء والفقهاء الذين وفدوا إلى إفريقيا وتركوا فيها بعض آثارهم وبصماتهم. مع العلم أن كتابة تاريخ العلم والعلماء في المنطقة لم تبدأ في الظهور إلا مع أوائل القرن العاشر الهجري، أي مع ظهور كتاب كعت المسمى تاريخ الفتاش الذي بدأ صاحبُه في كتابته سنة 925هـ[28]، وما تبعه من مؤلفات أخرى ككتابَي أحمد بابا التنبكتي النَّيل والكفاية، وتاريخ السعدي المعروف بتاريخ السودان ، ثم تذكرة النسيان ، وما تبعها من بقية الكتب الأخرى.، أما قبل ذلك فلم تكن لدينا وثائق أو فهارس بها أسماء العلماء. ولذلك لا غرابة أن تضيع أسماءُ الكثير من العلماء والفقهاء المغاربة الذين أسهموا في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية وبناء النهضة العلمية طيلة القرون التسعة الأولى، إلا ما جاء عَرضاً على لسان بعض الرَّحالة والمؤرخين والجغرافيّين ممن دخلوا المنطقة ( كابن بطوطة وابن الوزّان) أو وصفوها من بعيد كالبكري والعُمَري والإدريسي والمقريزي وابن خلدون وسواهم. وقد اهتم الرحّالةُ الغربيّون بدورهم منذ بدأوا استكشاف الصحراء وإفريقيا الغربية، بتسجيل ظاهرة الوجود العربي والعنصر المغاربي في المنطقة والتحدُّث بذلك في كتاباتهم. فقد كتب الرحّالة البرتغالي ألفيس دا كادا موستو(َAlfise da Cada Musto) الذي زار منطقة السنغال في القرن الخامس عشر أنه يوجد بجانب السلطان فقهاء وأئمة دين من المغرب والصحراء يرافقونه ويُملون عليه ما ينبغي تطبيقُه من أحكام . وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي كتب مؤرخ برتغالي آخر وهو( فرنانديز:Fernandes ) عن وجود علماء دين آخرين جاؤوا من فاس أو مراكش كانوا مقيمين في السنغال. وهناك رحّالة غربيون من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لاحظوا هذه الظاهرة أيضاً في مناطق مختلفة من إفريقية، ومنها منطقة الكاميرون ، وسجَّلوها في كتاباتهم [29]. وهناك في مقابل الوافدين من المغرب على السودان الغربي، فئةٌ من الأفارقة قدموا إلى المغرب في رحلات عِلمية خاصة، فأقاموا به وأخذوا عن أشياخه وعلمائه، وفئةٌ أخرى جاءت في رحلات سِفارية أو حَجِّية ، فوجدت في إقامتها مناسبةً للاحتكاك بعلماء المغرب والاطلاع على مؤلفاتهم وربط الصلة العلمية المُباشِرة بهم . ولعل صيتَ الأديب الشاعر أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي (ت608 أو 609هـ ) ـ أقدمِ الوافدين الأفارقة المعروفين إلى المغرب ـ قد طرق الأسماعَ في كل بقاع الأرض، بسبب بيتين رائعين أنشدهما في مدح الأمير الموحِّدي يعقوب المنصور وهما قوله: أزالَ حِجابَه عني وعَيني تَراهُ من الَمهابة في حِجــابِ وقَرَّبنـي تفضُّلُــه ولكــن بَعُدتُ مَهـابةً عنــد اقترابــي ورغم أن السبب في وجود الكانمي بالحضرة المراكشية واتصاله بأميرها المنصور غيرُ معروف على وجه الدقة، إلا أنه من الثابت أن الرجل اختلط بالأوساط العلمية لعاصمة الدولة المُوحِّدية، وكانت يومها تعجُّ بالعلم والعلماء، وقرأ فيها وأقرأ، ورحل منها إلى الأندلس ثم عاد إليها وقضى فيها بقية حياته إلى أن وافاه أجله[30]. ومن أعلام السودان الذين رحلوا إلى المغرب أيضاً الإمام القاضي كاتب موسى في عهد سلطان مالي منسا موسى ( ق8هـ). وقد كان من كبار المشايخ وتولى إمامة المسجد الكبير بتنبكتُو. قال عنه السعدي في تاريخه:« وهو من علماء السودان الذين رحلوا إلى فاس لتعلُّم العلم في دولة أهل مالي بأمر السلطان العدل الحاج موسى »[31]. وفي هذه الإشارة ما قد يفيد بأن هذا السلطان ـ على الأقل ـ كان يرسل بعثات طلابية للتعلُّم في المغرب، وربما كان يقدِّم لهم من المعونات المالية وغيرها ما يقوّي عزمَهم ويشجّعهم على تحمُّل أعباء الغربة والإقامة في طلب العلم. ولم يكن كاتب موسى أولَ شخص يُبعَثُ إلى المغرب للتبحُّر في العلوم في عهد هذا السلطان المعروف بشغَفه بالعلم والكُتُب والثقافة العربية، فمن الطرائف التي حكاها السعدي في تاريخه أن الملك َمنسا موسى حين رحل للحج رجع ومعه الشيخ عبد الرحمان التميمي ليستعين به على نشر العلم في بلده مالي، ولكن هذا الفقيه المشرقي لم يكن له شُفوف على علماء السودان وطلبتها، فوجد نفسه مضطراً للرحلة إلى المغرب لزيادة التعلُّم وخاصة في الفقه المالكي وفروعه. قال السعدي متحدثاً عن الشيح يحيى التادلسي ( ت864هـ) وهو من علماء تُنبكتُو الكبار: « وروي أن طلبة سَنكَري إذا جاؤوه لأخذ العلم يقول: يا أهل سَنكُري، كفاكُم سيدي عبد الرحمان التميمي، وهو جاء من أرض الحجاز صحبة السلطان موسى صاحب مالي حين رجع من الحجِّ، فسكن تُنبُكتُ وأدركه حافلاً بالفقهاء السودانيّين، ولما رأى أنهم فاقوا عليه( كذا) في الفقه، رحل إلى فاس وتفقَّه هنالك، ثم رجع إليه فتوطَّن فيه ... »[32]. وإذا كان لنا ما نعلِّق به على هذه القصة، فهو أن الرحلة إلى المغرب وعواصمه، كانت عند أهل السودان من الأمور التي تُكسب صاحبَها جاهاً ومكانةً بين العلماء، وأن طريق الفقه المالكي إنما يُوتَى من المغرب لا من المشرق. والظاهر أن الذي دفع التميمي إلى الرحلة للمغرب وحَفَّزَه لها هو السلطانُ موسى، ولاسيما أنه كان بجانبه مستشارٌ أندلسيٌّ مغربي ذو كلمة نافذة هو أبو إسحاق إبراهيم الساحلي الذي زار المغرب هو الآخر في سِفارة بين سلطان مالي وأبي الحسن المرينيّ. ويقول أحدُ الباحثين المتخصّصين في العلاقات الثقافية المغربية السّودانية، إن ظاهرة الرحلة لطلب العلم بالمغرب، أخذت مع بداية القرن التاسع الهجري، « تعرف نمُواً مطَّرداً ومُتزايداً، ويتضح لنا ذلك من خلال بروز عدد من العائلات العلمية السودانية، نخصُّ بالذكر منها عائلتَي أقيت وبُغَيغ اللتين لمع نجمُهما في بلاد السودان منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري. وكان العديدُ من أعلام هاتين الأسرتين قد دخل المغرب ليأخذ من فقهائه. ومنهم من توفي ودفن بالمغرب»[33]. وبمناسبة الحديث عن أسرة أقيت، وهي أسرة صنهاجية كبيرة، يجب أن لا نغفل ذكر عُمدة هذه الأسرة وأُسطوانتِها ورَحاها في العلم والمشيخة ومفخرتها عبر التاريخ، ونعني به أبا العباس أحمد بابا التنبكتي الصنهاجي. فرحلتُه إلى المغرب التي دامت حوالي أربعة عشر عاماً ( 1002 ـ 1016هـ)هي أشهر رحلة في تاريخ العلاقة الثقافية بين المغرب والسودان. ورغم أن الرجل لم يأت المغرب طائعاً ولا راغباً وإنما أُكرِهَ على المجيء، لكن نازلته هذه من النوازل التي يصدقُ عليها قولُ الله تعالى وعسى أن تَكرَهُوا شيئاً وهو خَيرٌ لكُم(. فقد أخذَ عنه في مراكش خلقٌ كثير، ولكنه بالمقابل أخذ وقرأ وألَّفَ واطَّلعَ على ما لم يكن ـ وهو بالسودان ـ ليطَّلع عليه أو يصل إليه من النوادر ونفائس الكتب التي حمل بعضَها معه. وقد اعترف أحمد بابا نفسُه في بعض مؤلفاته بهذا الفضل، فضلِ إقامته بالمغرب وما عادت عليه بالنفع العميم[34]. بل إن أحمد بابا لم يكن لينال تلك الشهرة التي نالها والصِّيتَ الذائعَ الذي أصبح له، لولا تلك الرحلة التي لقي فيها مَن لقيَ، وتلمذَ له من تتلمذَ. وما كان مجيءُ أحمد باباً لوحده في تلك الرحلة التي أُكرِهَ عليها، وإنما جاء معه آخرون معدودون في أسرته وأصحابه، نالوا بدورهم ما ناله من نصيب الاطلاع والاستزادة من زاد المعرفة. ومن أشهر علماء السودان الغربي الذين كانت لهم رحلةٌ إلى المغرب في نهاية القرن الثاني عشر الهجري ( الثامن عشر الميلادي)، الشيخ محمد الأمين الكانمي الذي أصبح أميراً على بلاد بُرنو في تشاد الحالية. وكانت له قبل ذلك رحلة إلى المشرق، ثم عرَّج على بلاد المغرب فأقام في فاس مدةَ سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان وغيرها[35]. ومن أشهرهم أيضاً أحمد بن القاضي أبي بكر الفُوتي أصلاً الدَّوجقي مولداً ثم التُّنبُكتاوي الجَنّاوي، من أهل القرن الثالث عشر الهجري. فقد زار تونس خلال رحلته الحَجّية، كما زار مدينة فاس وأقام بها أيام المولى سليمان العلوي، وقرأ على عدد من مشاهير علمائها في ذلك الوقت كمحمد الطيب بن كيران ، وإدريس العراقي ، وأحمد بن الشيخ التاودي، وأبي عبد الله محمد الزروالي ، ومحمد بن عبد السلام الدرعي ، وغيرهم[36]. ومنهم في القرن الثالث عشر الشيخ الحاج عمر بن سعيد الفُوتي ( ت 1284هـ) الذي كان على الطريقة الصُّوفية التيجانية، وكانت له رحلة للحج وطلب العلم ، فزار فاس وتلمسان والقيروان وبرقة والقاهرة ، وفيها وفي غيرها من البلاد التي مرَّ بها وأقام، جلس لتلقّي العلم والأخذ عن علمائها[37]. وُيضاف هؤلاء الذي ذكرنا من الأعلام الوافدين على المغرب، إلى ما أورده المرحومُ إبراهيم الكتاني من أسماء أخرى كثيرة، في مقدمة تحقيق فتح الشكور، وإلى أسماء غيرها واردةٍ في مصادر متعدِّدة، فلتُراجَع في مكانها. هذا عن العلماء الوافدين من المغرب وإليه. وبجانبهم نشأت شريحةٌ كبيرة من العلماء الأفارقة من ذوي الأصول الصحراوية والمغربية نجد أسماء عدد غير قليل من أفرادها في مؤلفات أحمد بابا التنبكتي وخاصة كتابي النَّيل والكفاية، وفي كتابي السَّعدي وكعت، فضلاً عما ذكره المتأخرون من أمثال الشيخ العتيق بن الشيخ سعد الدين الدغوغي السُّوقي في كتابه الموسوم بالجوهر الثمين في أخبار صحراء الملَّثمين ومَن يُجاورهم من السَّوادين[38]. ولو أردنا أن نقتصر فقط على أسماء الأسر العلمية ذات الأصول الصحراوية المغربية، لما وجدنا أحسن من كتاب البرتلّي الولاتي المعروف بكتاب: فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التُّكرور، شاهداً على كثرتها وتفرُّعها. فقد أتى المؤلف على ذكر مئتين وخمس عشرة ترجمة لعالم أو فقيه، أغلبُهم ينحدر من أسر مغربية أو صحراوية عربية أو أمازيغية. ومن هذه الأسر ذات الأصل الصحراوي والمغربي التي تسلسل العلمُ في أعقابها، وعلماؤها معدودون في علماء التكرور ( السودان) الذين أوردهم البرتلي، نذكر على سبيل المثال: أسرة آل أقيت الصنهاجية التي ينتسب إليها أحمد بابا وجدُّه وأبوه وإخوانه، وأسرٌ أخرى كأل التواتي ، والولاتي ، والغلاوي ، والفيلالي ، والوداني ، والكُنتي، والديماني ، والسُّوقي ، والجكني ، والحنشي ، والأرواني ، والدليمي، والوافي ، والمحضري، والبابالي، والتادلي، والدكالي ... وغيرهم. والحديث عن الأسر العلمية المنحدرة من مناطق شمال السودان، يقودنا إلى التوقف عند مظهر خامس من مظاهر التأثير المغربي وهو المتمثِّل في العنصر البشري الطارئ على العناصر السُّكانية المحلّية. فقد كان سكانُ السودان الغربي يتكوَّنون أساساً من عنصر زِنجي إفريقي قديم وهو الغالب، وعنصر بربري قادم من الصحراء في فترات سابقة للإسلام[39] وهو يمثل أقلية من البيضان. ولكنه بعد دخول الإسلام أصبح العنصر البربري الصحراوي القادم من الشمال يتقَّوى جيلاً بعد جيل، ولاسيما في العصر المرابطي وما بعده. وليس التوارقُ المنتشرون في عدد من دول جنوب الصحراء ( وخاصة في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاصو ..) إلا من هؤلاء الملثَّمين القدامى، وهم خليطٌ من البربر والعرب المُتبربرين. ولقد كان لهم دور كبير في تأسيس دول وممالك في مالي وغيرها. على أن العنصر الزِّنجي نفسه كثيراً ما وجدنا قبائل منه تحاول ربط نسبها بالعرب (من أبناء عقبة أو عرب اليمن الحِميريّين أو ترفع نسبها إلى علي بن أبي طالب). وعرف العهد الإسلامي أيضاً هجرة بعض القبائل العربية القادمة من الشرق إلى المغرب ومنهم قبائل بني حسان ومَعقل والشاوية المعروفون اليوم في نيجريا بعرب الشوا[40]. وقد عرفت المنطقة عبر التاريخ موجات عديدة من هجرة القبائل العربية والبربرية من الصحراء إلى السودان، واندمج أبناؤها مع العنصر الزنجي على فترات، ولاسيما بعد أن توسَّعت مملكةُ السُّنغاي الإسلامية وأصبحت تضم ولاتة وتغازّة وتَدَمَكَّة[41]وتكدَّة وأهير وغيرها من مدن الصحراء ومناطقها وتعتبرها جزءاً من أراضيها وخاصة في عهدي سُنِّي علي وأسكيا الحاج. ومنذ بداية القرن الحادي عشر الهجري الذي عرف دخول جيش المنصور السَّعدي إلى مالي واستقراره مع أُسَره ومَن تناسل منه من أجيال طيلة قرون، ازدادت قوةُ العنصرين العربي والبربري وأضيفت عناصرُ أخرى من الأتراك والأندلسيّين ذوي الأصول المختلطة الإسبانية العربية الأمازيغية. وهكذا أصبح المجتمع الإفريقي في تنبكتو وجِنّي وجاوةَ وغيرها من المدن والمناطق المتَّصلة بها، مكوَّنة من خليط من العناصر السكانية، كنتَ تجد فيه الفاسيَّ والمراكشي والدرعي والزعري والدكالي، والدغوغي،والجزولي، والمسُّوفي، والصنهاجي، واللَّمتوني، والجاناتي ، والأندلسي، والجزائري، والتواتي، والتلمساني، فضلاً عن العُلوج الإسبان والأتراك الذين كانوا قد دخلوا في الجيش السعدي. ومن أهل القبائل المغربية الأخرى: شراكة والشياظمة وحاحة، وتادلة، وأهل ماسّة، وشتوكة، وأولاد جرار، وأولاد عمران، والمنبهيّين، وفشتالة، ومن أهل الأطلس والغرب والصحراء وغيرها من المناطق الأخرى. وقد تحدثت بعضُ المصادر عن أحياء تنبكتو التي كانت تقطنها هذه العناصر من جيش ( الرُّماة) المغربي، وأماكن سُكناهم الأخرى في جِنّي وغيرها من المدن والقرى[42]. وهكذا أصبح من الطبيعي أن يكون لهذا العنصر المغربي الآتي من مناطق مغربية شتّى، قوياً ومؤثراً بعاداته وتقاليده ولباسه ومطبخه وثقافته ولغته . ولو أردنا التوقُّف عند الجانب اللغوي من جوانب التأثير لهذه الكتلة السُّكانية المغربية التي تناسَلت وتكاثَرت وتعاظمَ شأنُها مع الأجيال والحقب والقرون، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من تركيبة المجتمع السوداني إلى اليوم، لكفانا، في تلمُّس هذا الأثر، ما نجده في النصوص التاريخية الثلاثة المشهورة وهي: تاريخ السعدي وتاريخ الفتاش وتذكرة النسيان، من عشرات الألفاظ المغربية. وقد عنَّ لي أن أشتغل بهذا الموضوع خلال فترة إقامتي بالنيجر، فاستخرجتُ من هذه المصادر الثلاثة قاموساً غنيّاً بالألفاظ المغربية التي نقلَها المغاربةُ في جملة ما نقلوه من ثقافتهم وعاداتهم إلى السودان، سنعمل على نشره في أقرب فرصة بحول الله تعالى. وتتناول هذه الألفاظ مختلف جوانب الحياة من لباس وأدوات وأطعمة وأسلحة وحرف وصناعات ومهارات ومعارف وعادات. وهذه نماذج مختارةٌ منها: الباشا ـ البارود ـ البراوة / البرا ـ البُرنس ـ البرّاح ـ الحانوت ـ الحومة ـ الحيوط (ج: حائط) ـ المخزن ـ المخازني ـ الجنان ـ الثقاف ـ التحريكة ـ التحزيمة ـ الشاشية ـ المحلة ( المُعسكَر) ـ الحُوت ـ الخابية ـ الرحبة ـ الرغايف ـ الزربية ـ الزغاريت ـ الزمام ـ المزوار ـ سافط ( أرسل) ـ المشور ـ المشاور ـ شاوش ـ مطيار ـ طيّر الماء ـ الظهير ـ العرصة ـ غيّاط ( ج: غياطة) ـ الفرَجية ( لباس) ـ قربوس ـ قفطان ـ الكاهية ـ تكمَّش ـ مولاي ـ شربيل ـ الروز ـ الروضة ( المقبرة) ـ الروى ( الأروى) ـ الطار ـ المُونة ـ الشكارة ـ الطيفور ـ اللحيفة ( اللحاف) ـ المكحلة ( البندقية) .... وهناك عشرات الكلمات والتعبيرات الأخرى ذات الاستعمال المغربي المعروف. وهي من حيث أصولُها الاشتقاقية إما عربية محرَّفة من الفصيح، وإما أمازيغية أو متأثِّرة في صيغتها الصرفية بالأمازيغية، وإما من أصل تركي دخل مع العناصر التركية التي استعملها السعديون في جيوشهم. وظاهرةُ انتشار الألفاظ المغربية في لغة أهل مالي، ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها تستحقُّ منا وقفةً خاصة. فالظاهرُ أن استعمالها لم يكن مقصوراً على أولئك الكتّاب المؤرخين الثلاثة الذين كان من المفروض أن يتجنَّبوا استعمالها لأنها من العامِّي الدارج لا من الفصيح المُستعمَل في الكتابة والتأليف بكل أقطار العالم الإسلامي. ولكن اضطرارهم لاستعمالها دليل على كثرة شيوعها مع كثير غيرها من العامية المغربية، في بيئتهم ومجتمعهم السُّوداني، ودليلٌ أيضاً على أنها كانت طاغيةً ومتغلِّبة حتى على الفصحى نفسها، وأن الطبقة المثقَّفة في تلك البيئة لم تكن تجد حرَجاً من استعمالها في التأليف والكتابة، وربما كان في ذلك دليل ًعلى ضعف المستوى التعليمي عند هؤلاء المؤرخين. على أنه من الثابت، من ناحية أخرى، أن لا أحد من أصحاب المؤلفات الثلاثة المذكورة، غادرَ بلدَه إلى المغرب حتى نقول إنه التقطَ تلك الألفاظ من البيئة المغربية التي رحل إليها. فكلُّهم وُلدوا ونشأوا وماتوا بالسودان، وكلُّ ما هنالك أنهم نشأوا في مجتمع مكوَّن من جالية سُكانية مغربية كبيرة وذاتُ تأثير قوي، ومع مرور الوقت أصبح كلامُها جزءاً من كلام السكان عامة. وقد بحثتُ عن هذه الظاهرة في غير هذه الكتب المالية الثلاثة، فلم أعثر على طائل، سوى كلمتين اثنتين وردتاُ في رسالة ألَّفَها أحمدُ بن القاضي الفُلاني الدَّوجقي الذي نشأَ وتعلَّم وأقام تارةً في تُنبكتُو ثم جِنِي وإليهما نسبَ نفسه فقال ( التنبكتاوي أُفُقاً الجناوي قراءةً )، وهي بعنوان: هَتك السِّتر عما عليه سودانُ تونس من الكُفر[43]، وقد ألَّفها وقدَّمها لحاكم تونس حمودة باشا ( ت 1813م) عند عودته من الحجّ وقبل زيارته لفاس التي ذكرنا سابقاً أنه أقام بها فترة ولقي فيها عدداً من العلماء والأشياخ. أي أن ابن القاضي جاء من منطقة تنبكتو وجني وهو يحمل معه آثارَ اللهجة المغربية من قبل أن يدخل المغرب ويلقى أهلَه ويستمع لكلامهم ويتأثر بلغتهم. والطريف في كتابات ابن القاضي أن نجد عدداً من الألفاظ جاءت من أصل إفريقي، وأصبح أغلبُها مستعملاً في العامية المغربية منذ العصر السعدي ( ق10هـ / 17م) أي منذ دخول جيوش أحمد المنصور إلى تنبكتو وما وراءها من المدن والأقاليم السودانية. ومن هذه الألفاظ نذكر: كمبري ( آلة موسيقية ـ بَمبارا ـ كناوة ـ تكدَّة ـ تُوري[44]ـ دِردِبة ـ دُندُف ( آلة موسيقية) . فهذا ضربٌ من ضروب التأثير المتبادل بين المغرب وبلاد السودان الغربي. وضربٌ آخر تحدَّث عنه ابنُ القاضي في كتاباته أيضاً ويتجلى في بعض العادات الشعبية الإفريقية التي انتقلت إلى المغرب عن طريق المجلوبين من بلاد السودان، ومنها مظاهر السحر والشَّعوذة وفنون الرقص والغناء المرتبطة في الأصل بعبادات ومعتقدات دينية إفريقية، وقد اعتبرها ابنُ القاضي من المظاهر المنافية لروح العقيدة الإسلامية الصحيحة وطالب حكامَ تونس والمغرب بالتدخل لمحاربتها. وذلك مظهر سادس من مظاهر التأثير الذي نتحدث عنه. والمظهر السابع، هو الذي يتحدث عنه كثير من المؤرخين والباحثين من قدامى ومُحدَثين، حين يتعرَّضون لسيرة رجل من أصل أندلسي كان مقرَّباً جداً من سلطان مالي الحاج منسا موسى، وجاء معه عند رجوعه من الحج، بعد أن أُعجِبَ به أيَّما إعجاب، فاتخذه مستشارَه الخاصَّ والمُشرفَ على إنجاز كثير من المشاريع الثقافية والعُمرانية، ونعني به أبا إسحاق إبراهيم الساحلي( ت747هـ) الذي كُلِّف بمهمة تطوير العُمران في دولة مالي، فأنجزَ بناءَ قصور للسلطان ومساجد وغيرها على طريقة العمران السائد في جنوب المغرب وقت ذاك، والقائم أساساً على الطين المضغوط بالخشب، والزخارف والنقوش والأصباغ الأندلسية المغربية التي اعتمد فيها على مواد محلية. فكان هذا النمط من العمران جديداً على أهل السودان، فنال إعجابَهم وإكبارَهم. وقد تناول أستاذنا العلامة محمد ابن شريفة شخصية الساحلي بالدرس والتحليل وتطرَّق إلى تكوينه الأدبي والعلمي المتعدِّد الجوانب وأعماله ومنجزاته في بلاد السودان وما كان لها من تأثير في تنمية الأذواق وتغيير أنماط اللباس والعمران والتعليم والسلوك، وختَمَ ذلك بالقول إن عمل الساحلي وتأثيره في السودان لم يكن ليقلَّ عن عمل زِرياب وتأثيره في بيئة الأندلس. وقد أشار السعدي في تاريخه إلى شيء من هذا التأثير المغربي في العمارة والعُمران بالسودان وتنبكتو على الخصوص، بالمفهوم الواسع لكلمة ( عُمران) الذي يشمل الحضارة والثقافة ، فقال: « فكانت تنبكت خرابَ بير[45]، ولم تأتها العمارةُ إلا من المغرب، لا في الديانات ولا في المعاملات. فأولُ الحال كانت مساكنَ الناس فيها زَريبات الأشواك وبيوت الأحشاش[46] ، ثم تحوَّلوا من هذا إلى بناء الحُيوط[47] أسواراً قصاراً جداً، بحيث مَن وقفَ في خارجها يرى ما في داخلها. ثم بنوا مسجد الجامع على حسب الإمكان، ثم مسجد سَنكُري كذلك، ومن وقف في بابه يومئذ يرى الحيطان والبُنيان، وما ثبتَت عمارتُه إلا في أواخر القرن التاسع، وما تكامل البناءُ في الالتصاق والالتئام إلا في أواسط القرن العاشر في مدة أسكيا داوود ..» ص: 21. ومما يُلحق بالعُمران بمعنى الحضارة والمدنية والثقافة أيضاً، مسألة اللباس التي لا شك في كون أهل السودان قد تأثّروا فيها بالنمَط المغربي باتخاذهم البرانس والقفاطين الملوَّنة والفَرَجيات والمَنصوريات والشاشيات الحمراء والعمائم البيضاء والقُمصان للرجال، والشرابيل للنساء، واتخاذ الشكارات (جمع: شكارة)[48] والحمائل، ومن الأفرشة اللحائف والزَّرابي، وكلها أشياء وردت ألفاظها ضمن المعجم المغربي السوداني الذي أشرتُ إليه سابقاً. ومما شاهدته ولمستُه من بقايا ذلك في المنطقة، أني حين زرتُ سُلطانَي صُوكوتو وكانو في نيجيريا عام 1996م، لاحظتُ أن حَرَسَهم السلطاني ( المخازنية) يشبه إلى حد كبير في نظامه وهيئته الحرَسَ السلطاني وخدَمَ القُصور الخاص بالمغرب، وألبستُه مكوَّنة أساساً من قفاطين ملوَّنة وفوقها فرَجيات بيضاء ناصعة، وعلى رؤوسهم الشَّواشي الحمراء، وفي أيديهم العِصِيُّ الطويلة، وفي أرجلهم البلاغي الصفراء والبيضاء. فأحسستُ وكأني في قصر سلطان مغربي لا فرق إلا في عظمة الهيئة وحسن النظام وأبَّهة المنظر، وجلال الموقف وجودة أنواع اللباس. وقد كانت ظاهرةُ العُري من الظواهر الشائعة في أفريقيا قبل دخول الإسلام، ومع انتشاره بدأت تختفي شيئاً فشيئاً، وإن كان ابنُ بطوطة قد لاحظ في القرن الثامن بعض بقاياها في مالي، لكنه لاحظ إلى جانبها ما كان السلطانُ وعِليةُ القوم والقُضاة يلبسونه من أثواب حريرية رفيعة وعمائم وطيلسانات وغيرها. ويقول آدمُ الفُندُكي صاحب كتاب : الآثار الكنوية ( مخطوط)، وهو يتحدث عن أيام السلطان محمد رَمفا حاكم كانُو الذي أقام عنده الفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلي أواخر القرن التاسع وقصَدَه مغاربةٌ آخرون أوائل التاسع: « وقد حضره كثيرٌ من العلماء والصلحاء وتصدَّق عليهم بمال جزيل، منهم الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني والشيخ عبد الرحمان بن زيتا.... وفي زمنه ظهرت الأقمصةُ والعمائمُ وبدأت اللغةُ الحوسيةُ تأخذ من العربية ... » إلى أن يقول : « وقد أنشأ قراءة المدح في زمنه ، فكان يحضر بنفسه يوم تمامه لأنه متواضعٌ جداً يعظِّم العلماءَ ... وهو الذي بدأ الشريعة حسبما دعاه العلماءُ الآتية إليه من الأقطار... ومن ذلك الزمان بدأ تفسير اللغة العربية بالحَوسية ...». وحسب سياق النص، فإن هذه المظاهر التي أصبحت تطبع الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية بألوانها وملامحها الجديدة، من نشر الشريعة، وتعليم العربية وشرح كتُبها بلغة الهوسا، وإحياء عيد المولد النبوي، والتزام اللباس الإسلامي الساتر للعورة وسائر أطراف الجسم كالقُمصان ووضع العمائم على الرؤوس ، كلها دخلت إلى تلك المنطقة عن طريق الوافدين من رجال الدين والتعليم والإصلاح من رجالات المغرب في الغالب وبعض المشارقة أيضاً. ويعتقد الدكتور ابن شريفة أن للأديب المهندس أبي إسحاق الساحلي المتقدِّم يداً فيما أصبح عليه أصحابُ مالي من ارتداء الثياب البيض الحِسان في العيدَين، وهي عادةٌ لاحظها وسجَّلها ابنُ بطوطة في رحلته. والاحتفالُ بعيد المولد النبوي على الطريقة المغربية بقراءة الأمداح وشفاء القاضي عياض على الخصوص، أصبح عادةً منتشرة في عهد دولة مالي أيضاً بتننبكتو وغيرها، وقد تحدث السعدي ومحمود كعت في تاريخهما مراراً عن هذه الظاهرة، وأرَّخا لعدد من الذين اشتهروا بفنِّ المديح من أهل السودان[49]. وذلك لونٌ آخر من ألوان الحضور المغربي وتأثيره الثقافي والديني. حول اللغة العربية: لقد تحثنا في كل ما سبق، عن دور المغاربة في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية بمختلف مظاهرها في منطقة السودان الغربي، ولكننا لم نتحدث عن دورهم في نشر اللغة العربية لغة القرآن الكريم، سوى ما قلناه عن إدخال تلك الطائفة من الألفاظ العامية المغربية إلى منطقة مالي بعد حملة المنصور السعدي، وانتشارها في المجتمع السوداني وتأثُّر بعض الكتّاب والمؤرخين بها، وما ذكرناه أخيراً من بدء انتشار العربية في مملكة كانو على عهد السلطان محمد رمفا في القرن التاسع الهجري. ولكن الحقيقة التي أصبحت معروفة لدى الجميع، هي أن انتشار اللغة العربية كان شيئاً مُلازِماً بالضرورة لانتشار الدين الإسلامي. فحيثما توجَّه الإسلامُ واستقرَّ، استقرَّت معه لغةُ القرآن التي هي أداةٌ ضرورية لفهم الوحي والتنزيل عند المسلمين، وضرورية أيضاً لأداء فريضة الصلاة، وحفظ السُّور وقراءة الأوراد، كما هي ضرورية لفهم الكتُب الدينية الأساسية من حديث وتفسير وقراءات وسيرة نبوية وغيرها من العلوم الإسلامية. ومن ثمَّ لم تكن العربيةُ عند المسلمين في يوم من الأيام، مجردَ لغة دينٍ وتعبُّد فقط، بل أصبحت لغةَ تعليم وتعلُّم، ولغةَ فهم وتفهُّم، ولغة ثقافة وحضارة وفنون. ومن ثمَّ تحوَّلت لتصبح جزءاً من العادات والتقاليد ، بل جزءاً من شخصية المسلم وكيانه وهويته. وإذن، نحن حين كنا نتحدث عن انتشار الإسلام، ودور المغاربة فيه، فإننا كنا نتحدث أيضاً عن انتشار لغة القرآن التي أصبحت لغةَ الدين والتعليم بمختلف أطواره، ولغة التأليف والشعر والأدب وسائر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق